"شوارع مسكونة" |
,الزمان العام 1982, ... أو كما أفضل القول بداية ,الثمانينات من القرن التاسع عشر, ... المكان أحدى مدن صعيد مصر تحديداً مدينة ,سوهاج,
لا أجيد شيئاً فى حياتى أكثر من ممارسة ,كرة القدم, .. أستطيع أن أظل لثمان وعشرون ساعة فى اليوم أمارسها دون كلل أو ملل ... وربما هذا ما أنقذنى لمرات عديدة .. أن أطلق العنان لساقاى فلا تلامس قدماى وجه الأرض وكأنما أطير محمولاً على بساط الريح .... بساط من الخوف والرعب الذى يقتحم كل خلية من جسدى ... وقطرات العرق النافرة من كل مسام جسدى .. فورة الأدرينالين تعطى حواسى قدرات خارقة لا أدركها
فى الثانوية العامة حصلت على مجموع ضئيل ... بالكاد تمكنت من الالتحاق بكلية التجارة فى هذه الجامعة التى تبعد عن القاهرة مئات الأميال .. لكم كان هذا يحلو لى.. كنت سعيداً ... الآن فقط سأنال حريتى .. ستنتهى الأسئلة من أمثلة أين ستذهب ؟؟ لماذا تأخرت ؟؟ من هذا الشخص الذي كنت معه ؟؟ وستنتهى الأوامر من عينة.. أستذكر دروسك .. كفاك لعبا .. لا تتأخر .. أذهب للنوم ... أستيقظ لتذهب الى المدرسة ... كل هذا انتهى ولم يعد شيئ من هذا الآن .. القطار يتحرك مغادراً المحطة .. والدى فى المقعد المجاور يمسك جريدته بين يديه يطالع الأخبار على صفحاتها ... وأنا منشغل بالعالم الجديد وماذا سيكون؟؟
أحمل مئات التخيلات والأحلام.. ملاعب كرة شاسعة.. جمهور يشجع بيبو.. هذا اسم شهرتى .. الهتاف يملأ المدرجات وأنا أنطلق بالكرة فى مهارة متجاوزاً اللاعبين وأسدد الكرة للمرمى محرزاً الهدف الأسطورى فتعلو صرخات الجمهور .
أنظر عبر نافذة القطار الزجاجية السميكة أراقب القرى والمدن والبلدات التى يقطعها القطار فى دقائق كل المشاهد أشعر أنها مكررة .. لا يميزها غير الأسماء التى تحملها لافتات المحطات البالية التي تمر فى سرعة .. لم أكن من الأشخاص الذين يستطيعون الجلوس لفترات ولو وجيزة كنت كائن من أقدام .. تمشى .. تتحرك .. تلعب .. تعدو لكن لا تجلس إلا قليلاً . .
والدى لاحظ تململى فى مقعدى فألقى بين يدي جريدة وفى صرامة : يا تقرا يا تنام لغاية ما نوصل لسه بدرى . . ونظر لى نظرة قصيرة منتظراً ردة فعلى.. بالطبع لن أنام فأمسكت الجريدة مستسلما وفتحتها على صفحة أخبار الرياضة بالطبع وظللت أقرأ الأخبار وقد تلاصقت الجريدتان واختفت وجوهنا خلف صفحاتها ..
تسع ساعات كاملة من تمايل الأرجوحة المسماة بالقطار وضجيج الباعة الجائلين يمرون بين المقاعد يعرضون بضائعهم العجيبة بالنسبة لى .. أحدهم يصدح بصوته: بليلة يا حمص.. يضع على ورقة كرات صغيرة من حمص الشام الذى أخرجه من قفته والمدهش أنه ساخن .. صوت أخر.. سميط وبيض وجبنة.. رجل يحمل جردل معدنى على كتفه وهو ينادى حاجة ساقعة أشرب يا عطشان.. تيم وكراش وسبورت أشرب.. كانت هذه هى انواع زجاجات المياه الغازية وقتها وكان اغلب الناس لا يملكون رفاهية الحصول عليها إلا فى حالات المغص أحياناً كعلاج .. المذهل كان المريض يشفى لا أدرى سببا لهذا .. كنا ونحن اطفال نشرب هذه الزجاجات بثقب غطاءها المعدنى بمسمار وشرب القطرات فى استمتاع ولذة .. الممر يزدحم بالباعة والمسافرين الذين يحملون الصناديق الكرتونية والأمتعة الغريبة من القفف التى أراها للمرة الأولى .. كنت أراقب فى فضول حتى وصلنا
فى المحطة أخذ أبى يتلفت يميناً ويساراً يبحث فى الاتجاهين عن وجه بعينه حتى وجده .. أقبل علينا الرجل الذى كان ينتظرنا وعانق والدى وعانقنى رغم أننى لا أعرفه ... كان طويلاً قوى البنية له يد ضخمة قدت من حديد على ما يبدو .. وأنطلق يصحبنا وسط موجة من الترحيب الشديد والزحام على رصيف المحطة والتدافع وصافرة القطارات تأكل نصف الكلمات فتغيب فى الضجيج لتتحول إلى إحدى مكوناته حتى وصلنا الى خارج المحطة .
ركبنا إحدى عربات الحنطور المصطفة أمام المحطة تنتظر المسافرين .. كانت هذه وسيلة المواصلات على ما يبدو .. عربة ذات شكل هندسى جميل مكسوة بالجلد الأسود بها مقعدان يواجه كل منهما الأخر ومقعد مرتفع يجلس عليه قائد العربة تشعرك بأنك فى أحدى العربات الملكية ... لها عجلات خشبية رفيعة مكسوة بالكاوتش المسمط تجرها الخيول عن طريق ذراعان مفصليان من الخشب السميك ذكرتنى بالعربات من أفلام الغرب الأمريكى إلا أنها تختلف فى تصميمها تماماً ... كانت هذه العربات لا تتواجد بالقاهرة إلا فى المناطق السياحية وكورنيش النيل ... كنت فى حالة من الانبهار بهذا العالم الجديد عينى تلتهم التفاصيل وتحفظها فالخيول تسير الهوينة وتمنحك فرصة للتمعن .. الأبنية لا تتخطى خمسة أو ستة طوابق بحال وأغلبها لا يتعدى الطابقين ..الشوارع متسعة نظيفة ممهدة بالأسفلت المترب القديم .. تستطيع إحصاء المارة فى سهولة مفرطة .. لا يوجد ازدحام .. العربات قليلة جداً ولها هيئة أسطورية بضخامتها ووجاهتها أنا متأكد أنها من القرن الماضى ..
وصلنا الى وجهتنا .. حملت حقيبتى أتبع والدى ورفيقه اللذان لم يكفا عن الحديث منذ لقائهما وكل ما فهمته من الأحاديث أنه صديق والدى من زمن الدراسة الجامعية .. كان النيل بضفتيه يقسم المدينة الى نصفين لا يربطهما غير كوبرى بطول كيلو متر واحد ... جزء شرق النيل على يمينه مباشرة مجموعة من المساكن ذات التصميم المعمارى الموحد الاستاد إحدى المدارس بعض بيوت متناثرة ..على الجانب الأخر مبنى المحافظة ثم موقف السيارات ثم مجموعة من المساكن بذات التصميم الموحد الطريق ممتد لما بعده من قرى ومدن أخرى .. الحقول ممتدة على جانبي الطريق ... وجزء غرب النيل وهذا يقطعه شريط القطار الذى يمر أسفله نفق ضيق .. ومن ثم يمتد جنوباً وشمالاً ليصل المدينة بالقرى والمدن من حولها ....
صعدنا أحد الأبنية المواجهة للنيل مباشرة وطرقنا الباب .. استقبلنا شاب فى مثل سنى تقريبا أسمر الوجه جميل الملامح .. رحب بنا ببشاشة وأقتادنا الى غرفة شبه خالية من الأثاث غير سريرين متباعدين لا أكثر وصالة بها طاولة معدنية كبيرة فى منتصفها ومجموعة من الكراسى الخيزران تحيط بها فى عشوائية .. وضعت الحقيبة الثقيلة أرضاً .. أخذ والدى يوجه الأسئلة للشاب من نوعية كم عددكم فى اى السنوات الدراسية أنتم ؟؟؟ ومن ثم طلب منى ترك حقيبتى بالغرفة بعد أن تبادل مع الأستاذ جمال صديقه النظرات المطمئنة حتى يتسنى لنا الذهاب الى الجامعة حتى أعرف طريقها وتنتهى مهمة أبى .
كانت الجامعة قريبة ذهبنا سيراً على الأقدام .. على الجهة اليمنى مبنى حكومى على ما يبدو ثم مجموعة من العمارات السكنية ثم الجامعة ..ومن اليسار حدائق واسعة ومجموعة من النوادى .. دخلنا الى الجامعة برحابها المتسع والأبنية المتلاصقة العملاقة وممراته التى تعج بالطلبة فى ازدحام محبب للنفس .. وقف والدى ودس فى يدى بعض جنيهات ورقم هاتف صديقه الأستاذ جمال ... وألقى على مسامعى مجموعة منتقاة من النصائح والإرشادات والتعليمات بالطبع وأنا أحرك رأسى علامة الفهم والطاعة ... وكأنى سأمتثل لكل ما قال !! ثم تركنى وأنصرف بصحبة صديقه ..
بدأت حياتى الجديدة أخيراً سأكون وحدى وأفعل ما يحلو لى ... دلفت الى قاعة المحاضرات المكتظة وبدأت رحلة التعرف على الوجوه والأصدقاء ... كنت أسرع من يكتسب صداقة من حوله وقتها .. لا شيئ يوقفنى ... تعرفت الى الجلوس حولى من جميع الأتجاهات .... كنت متعباً من الرحلة والأستيقاظ المبكر للحاق بالقطار عدت الى السكن بعد أول محاضرة ونمت نوماً عميقاً ..
فى الليل صحوت على صوت زملائى بالسكن يجلسون على السرير المجاور يلعبون الكوتشينة ... ألقيت التحية وسألت عن الوقت ؟؟ أنه منتصف الليل.. غسلت وجهى وعدت وبدأ التعارف ... رفيقى بالغرفة محمد الجاوى من قنا يسبقنى بعام دراسى فى كلية العلوم والأخران عبد الله وأيمن من أسوان بكلية الآداب ويكبروننى بعامين .. قلت بتباهى أحمد بيبو من القاهرة .. طبعا تعرفون بيبو اكتسبت اللقب من مهارتى .. وأندمجت معهم سريعاً وبدأت اللعبة ونحن نتبادل النكات والضحكات .. كان جميعهم ظرفاء ودودين وبالطبع الجميع يعشق كرة القدم هوايتى وعشقى المفضل ... انتهت الأمسية وأوى الجميع الى الفراش .. أما أنا فجافانى النوم طويلاً ربما بسبب الساعات التى أختلستها .. لكن لا بد من النوم ...
بدأت حياتى تتشكل وتتمحور فى آلية ... الجامعة الأستاد ولعب كرة القدم الخروج مع الأصدقاء للمقاهى القريبة المتناثرة خلف مبنى الجامعة بأريكاتها الخشبية الممتدة فى صفوف متراصة اقرب للغرز فى مظهرها ...
ممارسة التنزه بالحدائق العامة المواجهة للبناية التى نقيم بها والجلوس فى حلقات من السمر الطلابى ... كانت هذه حياتي حتى كانت هذه الليلة التى تغير فيها كل شيئ .
كنت ومحمد صالح زميلى بنفس السنة الدراسية نلعب أحدى المباريات بهذا الملعب الخلفى من الاستاد الذى نتسلل له خلسة ...
انتهينا من لعب الكرة وألح محمد لأذهب معه الى منزله القريب خلف الأستاد فقد كان من أبناء المدينة ذاتها .. وصلنا الى منزلهم الصغير المشرف على الطريق وقدمت والدته لنا الطعام وهى ترحب بى فى ود وكرم ... تناولنا الطعام وأكواب الشاى وجلسنا نستذكر بعض المحاضرات حتى أنتصف الليل فاستأذنته فى الانصراف .. ألح فى بقائى دون جدوى فأنا أريد النوم بشدة .
كان الشارع خالياً من البشر تماماً مظلم عدا بعض أضواء هزيلة من مداخل البيوت المتناثرة .. وضعت يدى فى جيبى حتى تحظى بقليل من الدفء فى هذا البرد .. الهواء يحمل رائحة الحقول القريبة من الطريق الترابى الضيق .... شعرت بشيئ غريب .
عيون تتلصص فى الظلام وخطوات نعم صوت خطوات .. وقفت ونظرت خلفى ... وجدت حماراً أسود وكلباً أسود وجدى أسود جميعهم باللون الأسود الحالك .. ابتسمت فى استخفاف اقاوم شعور بانقباض خفى يتسرب الى داخلى .. لكنى فوجئت بهم يبادلونى نفس الأبتسامة الساخرة وأنا أنظر نحوهم .. هل أنا متوهم .. وهاجس خفى يحثنى كى أبتعد قدر الأمكان .. استدرت اتابع السير وأنا أحدث نفسى ... ما هذه الصحبة الغريبة الغير متناسقة غير فى سواد اللون ؟؟
تابعت السير لكن شيئاً ما جعلنى ألتفت خلفى لأجد ثلاثتهم ما زالوا يتبعوننى ... بدأت أشعر بالخوف يتسلل الى نفسى .. فطمأنت نفسى ربما هم شردوا من أحد البيوت القليلة المتناثرة دون أن يشعر صاحبهم ...
أحاول طمأنة نفسى والهاجس يلقى بالتوتر داخلى قائلاً : هيا أهرب أيها الغبى..
اتمتم : لا بأس .. فلأتابع فى طريقى ولا ألتفت ...
لكن هناك شيئ غامض فى الأمر يشعرنى بالقشعريرة .. شعر رأسى ينفر واقفاً .. فليكن بدأت أقرأ بعض الآيات القرآنية حتى تهدأ هواجسى ... دب الإطمئنان الى قلبى .. نظرت نحوهم وأنا أتابع السير .. ما زالوا يتبعوننى .. وفى لحظة شجاعة قررت الوقوف والبحث عن أحد الأحجار لأقذفهم به .. انحنيت اتناول حجراً ونظرت خلفى لألقيه عليهم فلم أجدهم .. اختفوا فى ثانية واحدة .. أين ذهبوا بهذه السرعة الرهيبة ؟! .. لا يعقل أنهم شعروا بما أفكر فيه .. حتى لو لاذوا بالفرار فأين ذهبوا .. تأملت المشهد الخالى من كل شيئ عدا الظلام الدامس الحقول الذرة المترامية يميناً ويساراً وهى تتمايل مثيرة فى نفسى الأوهام المرعبة .. الهاجس يعاود : أهرب هيا لا تكن غبياً
إستدرت لأكمل طريقى لأجدهم فجأة فى مواجهتى تماماً وعيونهم الحمراء تحدق فى وجهى ... انتفضت وقفزت للخلف فى رعب وهلع لكنى تعثرت فى شيئ ما ووقعت على ظهرى .. فى هذه اللحظة أقتربوا فى سرعة خرافية
العيون الحمراء الدامية فى الظلام .. حدقاتى تلاقت مع حدقاتهم فى هذه اللحظة وأنا أزحف للخلف على يدى وظهرى .. بدأوا معاً يكشرون عن أنيابهم ويصدرون صوت زمجرة مخيفة.. كأنهم يهمون بالتهامى ... كيف تملك الحمير والماعز أنياب ؟!! انهم عفاريت بالتأكيد
وبكل ما فى نفسى من قوة وثبت واقفاً وأطلقت ساقى للريح ... كانت قدماى تكاد لا تلامس الأرض هكذا شعرت ... الرعب الخوف الهلع قلبى يثب بين ضلوعى لكنه يقاوم ليصل سريعاً الى البيت الذى تركته منذ قليل .. لا وجهة أمامى أقصدها غيره بعد أن قطعوا طريق عودتى ... كان شيء يلح لأنظر للخلف ولكننى لم أنظر خلفى ولو للحظة حتى لا أتفاجأ أنهم أوشكوا على التهامى حياً .. حتى وصلت للباب وطرقته بعنف .. وأنا أنادى على صاحبى بصوت يملؤوه الخوف فلا يكاد يسمع ألتفت نحو الاتجاه الذى قدمت منه وفى الظلام كانت ستة عيون دموية تقترب فى بشاعة فقط عيون وأنياب ..
وأنفتح الباب فدلفت مسرعاً الى الداخل وأغلقته بقوة واسندت ظهرى عليه .. محمد يقف أمامى فى ذهول وهو يسألنى عما حدث ؟؟؟ وأنا أحاول التقاط أنفاسى ... العرق يغرق وجهى .. ألهث من شدة الخوف فأمسك بيدى ودلفنا الى غرفته المجاورة للباب .. كانت الغرفة مضيئة مما أشعرنى ببعض الاطمئنان .. ألقيت بنفسى على السرير وأنا أتمتم بأنفاس متسارعة بكلمات غير مفهومة عن عفاريت وحمار اسود .. وهو يقف عاجزاً عن الفهم .. أعطانى كوباً من الماء تناولته وشربته دفعة واحدة وتحول الى عرق فى ثوانى عرق فى هذا البرد القارص .. وظمأ فى هذا البرد القارص .. وأشرت بيدى طلباً للمزيد .. كانت حالتى مزرية دلف والده من الباب يسأل عن الطارق فى هذا الوقت ؟؟ وجدنى بهذه الحالة فسأل أبنه عما حدث لى ؟؟ كنت قد التقطت أنفاسى فأخذت أقص عليهم ما حدث وقد بدا وجهى شاحباً .. قام والده يربت على ظهرى ويطمئننى ضاحكاً .. إنها مجرد أوهام المكان وإن كان فى المدينة لكن هناك زراعات قريبة من المكان وبعض البيوت بها هذه الحيوانات ومن المؤكد أنها شاردة من أحد البيوت ... كان كلامه منطقياً لكننى واثق مما رأيت .. أبتسم وهو يصفنا نحن القاهرين برقة القلب والخوف من لا شيئ وأبتسم وطلب منى البقاء حتى الصباح وانصرف ... استكانت نفسى قليلاً .. فلن أعود لأواجه ما واجهت مرة أخرى ...
احضر لى محمد جلباب لأنام فيه .. بدلته وجلست على السرير وتكورت على نفسى ما زال كيانى يهتز وقلبى يرتجف .. أطفأ محمد النور فصرخت ملتاعاً طالباً أن يتركه مضاء .. فتركه وهو يضحك .. إندسست وسط الأغطية وهو الى جوارى يثرثر وانا أجيب باقتضاب فالمشهد ما زال كأنه أمامى الخوف والتوهم سيطرا على عقلى تماماً .. نام وظللت مستيقظاً حتى الصباح أحملق فى الضوء خوفاً من أن ينطفأ .. فى الصباح الباكر خرجنا الى الكلية لكنى تركته وذهبت الى الشقة
دلفت للشقة الخالية .. الجميع ذهب للجامعة .. فتحت نافذة الغرفة حتى يدخلها ضوء النهار ونمت .. لكن الكوابيس طاردتنى خلال نومى حتى استيقظت من إحداها وقد تبللت من العرق نظرت حولى .. الظلام يحيط بى .. الظلام والعيون الدامية تنظر من كل مكان ... انتفضت فى خوف وعدوت نحو زر الإضاءة وأشعلت ضوء الغرفة وعدت سريعاً الى السرير وقفزت له متوهماً أن الأشباح تطاردنى وقبعت مكانى لا أجرؤ على فعل شيئ .. كنت فى حالة مزرية .. حتى ساعات النوم كانت الكوابيس تطاردنى خلالها ... ظللت متسمراً مكانى حتى عاد رفقائى من الجامعة .. سألونى بقلق عن سر غيابى بالأمس ؟؟.. قصصت له ما حدث وهم يضحكون ويهزؤون منى ... كرروا على مسامعى ما قاله الحاج صالح بالأمس عن ضعفنا نحن القاهريين .. كنت أضحوكتهم طوال الليل .. فليضحكوا هم لا يعرفون ما واجهته حقيقة .. ليس خداعاً بصرياً ولا وهماً من صنع خيالى .. فليكن لن أذهب لهذا المكان مرة أخرى مهما حدث ..
بعد شهر تلاشى شعورى بالقلق تدريجياً حتى نسيت ما حدث .. عدا سخرية رفاقى فى السكن منى بين الحين والأخر ... وخصوصاً بعد أن تحاشيت الخروج وحدى ليلاً .
كان لا بد من ذهابى للأستاذ جمال صديق والدى لأتسلم منه مصروفى الشهرى كنت مضطراً ... قصدت منزله فى حى المخبز الآلى وهو أحد الأحياء الشعبية بالمدينة ... وصلت البناية وصعدت وثباً على السلم المظلم وكأن شيئاً يطاردنى حتى وصلت شقته بالدور الخامس وطرقت الباب فى عجلة .. استقبلنى بترحاب شديد وطلب من زوجته أعداد الطعام لى .. أخذنا نتبادل الأحاديث ريثما يأتى الطعام وهو يطمئن على أحوالى فى الدراسة .. وقصصت عليه ما حدث لى ربما أملاً فى سماع تحليل مختلف للأمر ... لكن خاب أملى .. الضحك والسخرية .. وقلبى القاهرى الضعيف .. هل يعقل هذا الجميع يتحدث بنفس الفكر ..
فى الشارع وقفت افكر معى نقود .. فلأذهب إلى المقهى القريب بطريق اسيوط سوهاج للعب الدومينو والطاولة مع الأصدقاء مؤكد هم هناك .. لكن كيف سأمر من هذا الظلام الشاسع المخيم على الشريط الحديدى للقطار وخصوصا هذه البقعة المتسعة المظلمة وعربات حاويات المواد بترولية المتراصة وكأنها هياكل أسطورية متراكمة بكثافة فى الظلام دامس .. وقفت بين العمارات السكنية الى يسارى وسور المدرسة الى يمينى اتحرك بضع خطوات ثم اتوقف وانظر للمساحة الشاسعة التي سأجتازها .. الضوء شديد الخفوت القادم من أحدى البلكونات الخلفية للبنايات ضوء لا يسمن ولا يغنى شيئاً بل يزيد الطين بلة بالخيالات والظلال للحشرات الطائرة وقد ضخمها بصيص الضوء فصيرها وحوشاً عملاقة تثير خيالاً مريضاً لشخص مثلى .. لا فلأعود من حيث أتيت ..
صوت قادم من خلفى لم أكد أنظر حتى مر شخص ما الى جوارى سريعاً على دراجته الهوائية ودلف باتجاه القضبان الحديدية ثم نزل عن دراجته وحملها وبدأ العبور بها فى سرعة .. تشجعت وتحركت لألحق به ليكن رفيقى حتى الطرف الأخرحتى الوصول للطريق فى الجهة الأخرى .. كان بصرى مثبتاً على حامل الدراجة .. أثب فى رشاقة وسرعة محاولا اللحاق به أعبر الشريط الأول ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السا.... وفجأة شيئ ما أمسك بقدمى وتعلق بها فوقعت وانا اطلق صرخة عالية مدوية فى الفراغ .. اطلق الرجل حامل الدراجة على إثرها ساقيه للريح وتبخر .. سقطت في حفرة عميقة على الطرف الأخر من القضبان الحديدية.. الخوف.. الألم من أثر السقوط .. الكلاب تنبح وهى تعدو نحوى.. مادة لزجة لطخت ذراعى والجانب الأيمن من وجهى وصدرى وامتزجت بالتراب .. الكلاب ما زالت تقترب فى سرعة نظرت نحوها .. كانت ذات العيون الحمراء الدامية المكشرة على أنيابها أراها .. ودون تفكير فى شيئ انطلقت بكل ما أوتيت من قوة وأنا أعرج ولكنى أعدو للنجاة بنفسى من هذه الشياطين .. لن أنظر خلفى مهما حدث .. وأخيرا وصلت للطريق .. للضوء الهزيل الساقط من عمود الكهرباء .. كان الرجل يقف بدراجته يتطلع الى حيث تركنى أواجه مصيرى وما إن رآنى حتى ولى هارباً مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم وكأنى أنا الشيطان ..
تابعت العدو خلفه فالطريق خالى إلا منا نحن الأثنين .. أريده أن يساعدنى وهو يلتفت خلفه نحوى ومن ثم يزيد من سرعة الدراجة بكل ما أوتي من قوة ... الطريق خالى من المارة .. لا بشر .. لا سيارات .. لا محلات .. والرجل لاذ بالفرار وكأنما هو من رأى شبحاً وأخيراً وصلت إلى محطة بنزين صغيرة منزوية ذات ضوء شاحب خالية من السيارات سوى عامل يجلس على الأرض يتناول الطعام .. ما إن نظر فى وجهى حتى هب واقفاً يريد الفرار .. ماذا يحدث هل حولتنى الشياطين لكائن ما لا أعرفه ولا أستطيع رؤيته .. أمسكت بذراعه أتوسل له ..لا تتركنى أرجوك أنقذنى .. كان يرتعش فى خوف ورعب .. كانت الكلمات ملتاعة خائفة تصدر من حلق جاف وقد ألتصق شدقاي وحلقى جاف كصخرة ... تمالك الرجل نفسه لكنه كان متحفزا يتفحصنى وهو يسألنى عما حدث ؟؟ ألقيت بقصتى فى وجهه فى كلمات سريعة : وقعت فى البركة على شريط القطار .. والكلاب تلاحقنى ..
سألنى : ما الذى يلطخ ملابسك ووجهك هكذا ؟؟
أجبته فى هلع : لا أعرف
أقترب منى وتحسسه بأصبعيه من على ملابسى ثم قربه لأنفه وشمه : إنه دم !!
فى توتر أجبته : دم !! ربما كنت مصاباً .. وأخذت أتحسس رأسى ووجهى
ذهب عامل المحطة وأحضر قنينة ماء وظل يسكب ما بها وانا اغسل وجهي ورأسى وأبلل شفتاى .. وأمسح ملابسى بيدى دون جدوى فقد ازدادت أتساخاً فالدماء امتزجت بالتراب إثر سقوطى ..
أتحسس رأسى بيدى بحثاً عن أى جروح .. لست مصاباً ولا جريحاً عدا بعض الخدوش بوجهى ويدى .. الحمد لله .. شكرت الرجل وانصرفت مسرعاً .. أريد الوصول للمنزل بأسرع من البرق .. لكن ساقى تؤلمنى وامشى بتؤدة واعرج بشكل خفيف ..
لمحت إحدى سيارات الأجرة العملاقة من صناعات القرن الثامن عشر وأشرت لها .. توقفت وركبت وحدى فى المقعد الأمامي للسيارة .. كان مظهرى يوحى بالقلق .. السائق يتفحصنى بنظرات جانبية وهو يقود السيارة .. لكن لم يلبث الأمر غير دقائق حتى وصلت كان الجميع بالشقة وقد صعقهم منظرى .. وكالعادة القصة التى تخلو من المنطق سوى خوفى الذى صنع فى رأسى هذه الأوهام .. لكن هذه المرة هناك دليل الدماء على ملابسى .. تأكدوا جميعاً أنها دماء .. فللدم رائحة مميزة .. أخذت حمام دافئ سريع فلا أستطيع الوقوف طويلاً بسبب ألم ساقى كما أن الخوف يسيطر على كل جوارحى .. أصبحت متشكك ملتاع خائف حتى من إغماض عينى وأنا تحت الماء .. وملابسى تقطر الدماء المختلط بالماء برائحته التى تشبه صدأ الحديد .. كل ما يشغلنى من أين أتت هذه الدماء ؟؟ وما الذى حدث ؟؟ لا زلت لا أفهم .. يبدو أن الخوف يصيب العقل بالشلل .
رقدت فى ثبات عميق تتخلله الكوابيس فقمت فزعا صارخا .. الجاوى يفزع من صراخى ويقوم وهو يسب اليوم الذى رآنى فيه .. كان هناك شبح ما يطاردنى فى كوابيسى .. شبح له نصف وجه دامى وكتف وزراع مبتور وكأنه قطع بدقة .. والدماء تغطيه .. كان يعدو خلفى وقد رفع اليد الوحيدة الباقية يريد أن يمسكنى بها وأنا أهرب بكل قوتى وكما اقترب من الإمساك بى كنت أصرخ واستيقظ .. ثم أسقط نائماً مرة أخرى ..
لا أعرف لكم ساعة نمت ؟؟ لكننى أشعر بالجوع والعطش .. خرجت إلى الصالة لا أحد فى الشقة نحن فى وقت الظهيرة الشمس ما زالت نحو الشرق .. تناولت طعاما وجدته على الطاولة بالصالة وعدت للغرفة استرجع ما حدث .. شعرت بقيمة الأسرة فى هذه اللحظات .. شعرت بقيمة يد تربت عليك حين تقوم فزعاً فى الليل وتحملك لتنام فى أحضانها .. اشتقت لكلمات تبعث الطمأنينة فى النفس .. تخبرنى ألا أخاف فهى معى ولن تتركنى اشتقت إليك يا أمى .. أشتقت إليك يا أبى .. وبكيت فى هستيرية وحدى
قبل المغرب عاد الجميع من الكلية .. ودخلوا الى الغرفة وأنا جالس على السرير .. وجوههم توحى بأن ثمة شيئ غريب حدث .. جلسوا وهم يتبادلون نظرات ذات مغزى ..
سألتهم : ماذا حدث ؟؟ ولا أحد يجيب ..
سألت مجدداً : لماذا لم يوقظنى أحد لأذهب للكلية ؟؟
الجاوى يخبرنى أنى نمت ليومين متواصلين ... ومن الليلة الأولى مل من صراخى وكوابيسى المتكررة فترك الغرفة وذهب للنوم معهم ..
نظرت له بدهشة .. عرفت قيمة أهلى لم يكونوا ليتركونى ربما ظلوا ساهرين بجانبى ..
كان الجميع على غير عادتهم المرحة .. ماذا بهم ؟
أخيراً بعد إلحاح اخبرنى أيمن أنهم عرفوا أن الدماء التى كانت تلطخنى هى دماء لشخص دهسه القطار ومزق جانب وجهه وبتره بكتفه وذراعه ... وقد وجدوا أشلاؤه فى اليوم التالى صباحاً ..عرفوا القصة من زميل لهم يقيم فى هذا الحى ..
مهلا لماذا أشعر أن هذا الوصف أعرفه .. وكأنى رأيته سابقاً ؟؟
ضممت يدى على ركبتى ودفنت رأسى وحاولت استرجاع الأمر برمته ..
نعم هذا الوصف للشبح الذى كان يطاردنى أثناء نومى !!
إذا لقد تعثرت بجثة !!
وتحولت الجثة الى شبح يطاردنى فى أحلامى !!
لكننى لم أرى أى جثث !!
مهلا الرجل بدراجته مشى من نفس البقعة لماذا لم يتعثر فى الجثة لو كان هناك جثة ؟؟ الأمر محير ... بعث فى نفسى القشعريرة .. كنت افكر فى صمت رفعت رأسى وجدت ثلاثتهم يحدقون بى فى دهشة يتعجبون من هدوئى وصمتى .. رغم علمى بسقوطى وسط بركة دماء قتيل ممزق الأشلاء .. كانوا ينتظرون منى البكاء والعويل لكنهم لم يكونوا يعرفون أننى أنتهيت لتوى من نوبة من البكاء الهستيرى .. تركونى وانصرفوا وظللت وحدى
دخل الجاوى الغرفة جمع كتبه واخبرنى انه سينام معهم ونصحنى بجدية بالذهاب لاحد المشايخ فربما أصابنى مس من الجن .. بدأوا فى نقل السرير الى غرفتهم .. وأغلقوا الغرفة عليهم ..
إذا أنا وحدى ويتوجب على مواجهة الخوف وحدى سقطت دمعات على وجنتى .. جلست وحدى بالبلكونة المطلة على النيل من زاوية جانبية .. كنت أبكى فى هدوء .. كنت خائف
الظلام يخيم على المدينة عدا أضواء هزيلة قادمة من الضفة المقابلة .. الليلة بدر والجو بارد .. صقيع .. لكنى كنت أشعر بحرارة شديدة لا أعرف سببها .. تحسست رأسى لا حرارة مرتفعة ! الحرارة داخلى يبدو أننى مريض .. لكن فى هذه اللحظة لمحت شيئا فى الصالة على الضوء الخافت القادم من الحمام ...
يتبع
إرسال تعليق