غرفة عشق رقم سبعة
غيبوبة
الخطوات
الثابتة .. فى الأفق التراب متصاعد من أثر الأقدام يصنع هالة الموكب الممتد في خيط
رفيع متلوى من حشد الرجال الذين يمشون في صمت بين المقابر المتناثرة في عشوائية
على الجانبين ..
فى
المقدمة نعش محمول على الأعناق ..
الرجال
تتسابق فى تبادل طمعا فى نيل الأجر ..
شخص
ما خلف النعش يبكي في حرقة والأيادي تسانده من كل اتجاه وبعض الأكف تربت على ظهره
...
وصل
الحشد للمقبرة ..
وضعوا
النعش على رأس المقبرة ..
الرجل
المنهار يجفف دموعه وجفونه المنهكة شديدة الاحمرار .
استوقف
الجميع بإشارة من يده وانحنى وأماط الغطاء الأخضر المزركش بالمداد الذهبي المنقوش
بآيات من القرآن الكريم ...
انحنى
على النعش الخشبى ومد ذراعيه وحملها متدثرة بأكفانها بين يديه في عناية وضمها إلى
صدره فى حب وهبط الدرجات المؤدية إلى الأسفل وهو يحتضنها فى عشق ..
جلس
على ركبتيه فى هدوء ووسد جسدها الساكن بين يديه الثرى ..
حاول
من تبعه من الأهل التدخل ومساعدته ..
أوقفهم
بإشارة من يده كانت كافية ليتسمروا مكانهم ..
طلب منهم الخروج وتركه لدقائق معدودة وحده ..
انحنى
يزيل الأربطة ويميطها فى هدوء ووضع يده خلف ظهرها في حنان وأدارها حتى أصبحت راقدة
على جانبها الأيمن ..
كشف
وجهها فى وله يتأمله .. يرتوى منه بنظرة أخيرة تتسرب في نياط القلب ..
تطفر
الدموع متساقطة على وجهها ..
يرقد
إلى جانبها وفى مواجهتها تماماً يجيل النظر فى الوجه الملائكى الذى أختطفه الموت
منه وتحول من البياض المشرب بالحمرة الى الزرقة الخفيفة .. يلثم جبينها وخدها ..
يطلب منها مسامحته ..
يربت
بيده على وجهها ينمق حاجباها وأهدابها بأنامله وكأنما يرسم لوحة لملامحها بريشة
فنان ويعلقها على جدار روحه مع شريط أسود من أعلى اللوحة من جهة اليسار .. لماذا
اليسار ؟؟ هو موضع القلب ..
يمسح
وجهها فى حنان بالغ كأنما يلتقط بأنامله صورة أخيرة لتفاصيل وجهها .. يمسك بالتراب
من حولها يحسوه وينتقى سفائف الحصى من حولها حتى لا تؤلم جسدها ..
يحسوه
وهو يتوسل له أن يترفق بها وألا يطلق وحوشه الساكنة فى نهم تنتظر الأجساد لتقتات
عليها لتفتك بها ولا يبقى منها شيء سوى بعض عظام متناثرة .. ارهقه تخيل الأمر ..
انحنى
ولثم جبينها وضمها إلى صدره فى حزن ..
فى
تردد وحيرة وتريث يخرج والدموع تغرق وجهه والتراب يكسوه من رأسه حتى قدميه ..
عمال
المقابر بدأوا يقومون بعملهم فى همة ..
يذهب
ليقف بين الحشود وهو يراقب قطعة من روحه يواريها الثرى ..
شخص
ما يقف على رأس المقبرة وصوته يصدح بالدعاء وآيات القرأن والحشود تأمن خلفه
جسده
يهتز وهو يكتم بداخله الدموع .. الألم .. الحزن .. الانهيار .. القهر .. ومع آخر
حجر وضعوه ليغلقوا باب المقبرة يسقط مغشياً عليه ... فهو لم يعد يحتمل بعد ,,
فالحزن
يجثم على قلبه ليأخذه في رحلة أخرى
فى
المستشفى يقف العديد ممن كانوا في الجنازة شقيقه الوحيد ووالده .. والدها وأخاها ..
أصدقاؤه
الجميع
ينتظرون الطبيب ليخرج ويخبر الجميع ..
:-
انهيار عصبي .. يحتاج بعض الوقت وسيكون بخير
يبقى
شقيقه ووالده وبعض الأصدقاء وينصرف الجميع لترتيب أمر العزاء .
في
الغرفة جلست معشوقته بجواره في السرير تربت على وجهه فى وله .. أناملها تصفف خصلات
شعره ..
تداعبه
بأرنبة أنفها فى أرنبة أنفه برقة لتوقظه كما كانت تفعل دائماً .. تلتقط عبق أنفاسه
ويلتقط عبق أنفاسها..
يفتح
عينيه سريعاً ليجدها جالسة بجواره يضمها بقوة وهو يبكى ويغيب فى أحضانها ويدها
تربت عليه فى عشق حتى يهدأ عينيه تتفحصها غير مصدقة ..
هما
صامتان .. مشاعرهم تقول كل شيء ..
العيون
فيها كل الكلمات ..
سقط
منذ زمن قناع الكلمات الذى يحتمل الكثير والقليل من التأويل الذى قد يحمل فى طياته
الدقة أوالشطط ..
هي
معه الآن وهذا يكفى لا يريد شيئا آخر
تومض
الأضواء الباهرة وتفقده الرؤية لثوان يجول بعينيه في الغرفة يبحث عنها
لكنها
اختفت ..
يصرخ
ينادي اسمها المحبب لحنه فى أذنيه لسنوات عشقهما السبع : رواء .. رواء .. لا تتركينى
...
يصرخ والدموع تنهمر من عينيه كأمطار غيمة كثيفة
تحجب ضوء الشمس و يصطبغ الكون بلون رمادي باهت ..
هرع الطبيب والممرضة للغرفة في سرعة يبدأ في اعداد
المحقن ويدسه في عروقه ويحاول التمسك به حتى يهدأ..
يسرى المهدئ فى أوردته من المحقن ليذهب فى غفوته
تدريجياً
تعود من جديد تجلس الى جواره فى الفراش ..
أيقن أنه هنا فى حلم جميل وهى معه هنا فقط فى هذا
الحلم اذا سيبقى معها ولن يستيقظ لن يقبل أن يفقدها مجددا..
سيبقى معها مهما كلفه الأمر ...
كان هذا هو الخيار الوحيد الذى يملكه فهو لا يملك
اللحاق بها طواعية ... لكنه سيحاول بكل قوته
كانت هذه اللحظة بالغة الدقة .. بالغة الخطورة ...
لن يستيقظ سيبقى معها .. وذهب في غيبوبة غير مبررة لسواه ..
غيبوبة ليكون معها وتكون معه ..
فقط فى الحلم الذي لم يعد يملك غيره ليعبر إلى
عالمها البرزخى.
الشوارع من حوله غريبة رغم أنها مألوفة بأبنيتها
العتيقة المترامية فى تناسق على جانبى الطريق .. تحمل آثار السنين على ملامحها ..
امتزاج الأتربة والأمطار رسم تعابير جديدة ولوحات
باللون الرمادى الكالح على جدران المنازل المتآكلة ..
يسمع صوت أقدامه .. الصوت له صدى وكأنه يسير وحده
..
لكن البشر من حوله يسيرون فى صمت مبهم لا صوت
لخطواتهم .. لا صوت لكلماتهم .. كان يشعر بالخوف .. بالقشعريرة تجتاح أوصاله ..
بالبرد والصقيع فى هذا الفراغ ..
كان يبحث عنها لماذا ذهبت وتركته ؟؟
لم يكن هذا ما اتفقا عليه .. أخبرته لمئات المرات
سنبقى معا للأبد .. وثق فى وعدها له .. وأخبرها بكل ثقة .. للأبد ...
هما لم يرزقا بأطفال .. ذهبوا للأطباء وجميعهم
أكدوا أنه لا مشكلة تعيق إنجابهما طفلاً .. فقط هى إرادة الله .. اقترحوا عليهم
اللجوء للحقن المجهرى حاولوا وانتظروا كثيراً دون جدوى .. لكنهم اكتفوا بعشقهم
ليكون الطفل الذى يولوه رعايتهم فنمى وكبر حتى أصبح هو ما يحتويهم .. كانا يسافران
سوياً ويستمتعان .. تركيا .. لبنان .. قبرص ... الهند .. فهو يهوى السفر ويملك
شركة سياحة ضمن المجموعة الأستثمارية التي تملكها أسرته .
أما هي فكانت تخشى البحر والبواخر والطائرات ولكنها تخلت عن كل خوف
يحمله قلبها لتكون معه ..
كانت تتناول عقاقير تمنع الدوار الذى يصيبها كلما سافرت .. تختبئ فى
أحضانه وتغمض عينيها وترتعش دونما خجل عند إقلاع الطائرة وهبوطها .. وعندما ينتهى
الأمر تنظر له وتبتسم فى ارتياح يقبلها فى حنان .. يتفهم تماماً خوفها ويستطيع
بحبه أن يمحوه فى بساطة .. يكفى أن تقبع فى أحضانه تستمع لنبضاته المستكينة
المطمئنة فتطمئن .
لكنها ذهبت وتركته وحده .. وهو عبثاً يبحث عنها .. كل ما يملكه الآن
ذكرياته معها .. هل ستكون كافية ؟؟
لا لن يستسلم .. سيسعى نحوها بكل قوته ..
لكنها أدركته فهو يسعى نحو الموت لا نحوها ..
كان لا بد أن تعود الى أحلامه لتنقذه ..
لكى يستمر في الحياة لا بد أن يتقبل أنها رحلت ..
أمسكت كفيه وظلت تدور حوله كالفراشة ..
شعرها الكستنائى يداعب النسيم في خفة ..
الدنيا تدور .. وتدور ... وتدور
وعقله بدأ يخامره الدوار بعنف ..
وهذا ما كانت تريده حتى تتدبر أمرها معه ..
لن تتكرره يضيع لأنها تعشقه .. ستفعل المستحيل
مهما كلف الأمر ..
رزاز الجليد
الثلوج والجبال .. اللوحة الجميلة المرسومة من
غرفة الفندق .. دائماً كانا يختاران غرفة تحمل الرقم سبعة أينما ذهبوا ..
لماذا الرقم سبعة ؟؟ لأسباب عديدة تخصهما وحدهما ... ربما لأنهما تزوجا فى اليوم
السابع من شهر يوليو من العام السابع بعد الألفين .. ربما لأنها ولدت فى ذات اليوم
السابع من شهر يوليو ... كان توقيت الزفاف اختيارها ..
هذا فقط ما أعرفه لكنهما يملكان الكثير الذى لم
يخبرا به أحد .. عاشا حياتهما كتاب مغلق لا يُعرَف منه غير غلافه البراق ..
لم يملك أحد الحق للغوص فى حياتهما فقط الجميع على
أطراف هذه الحياة ..
وكيف إذا عرفت كل هذا ؟؟
ستعرفون فلا تتعجلوا فلا زالت قصتى فى بدايتها ..
تتعجبون من كونها قصتى لا تتعجبوا ..
ستعرفون حين يحين الوقت .
كانت رواء تقف من خلف النافذة الزجاجية بالغرفة فى
هذا المنتجع الجبلى بلبنان .. تراقب الثلوج تهطل فى بطء لتكتسى الأشجار برداء أبيض
.. والجبال متشحة بالبياض الناصع الممتزج باللون الأخضر الجميل فى لوحة تبعث
البهجة فى النفس ... أنفاسها ترسم على الزجاج غيمة صغيرة .. تتسع رويداً وهى شاردة
تراقب فى صمت مبهم وهي ترشف مشروبها الساخن فى تلذذ واستمتاع بالدفء الذى يبعثه فى
أوصالها ..
يحتضنها من الخلف ويحيطها بذراعه ويكتب على الغيمة
المتكثفة على زجاج النافذة بإصبعه ..
أعشقك فلا تعشقى غيرى .. ويهمس في أذنها : حتى الثلوج ..
تلتفت له وتلثم شفته بقبلة من شفتيها .. وتهمس :
هلا كففت عن الغيرة ؟؟
يبتسم لها
.. لا يستطيع هو يغار حتى من شرودها .. تتهمه بالجنون !!
يضحك : نعم أنا مجنون بك ..
وقفا معا عند التلفريك يحاول إقناعها بالركوب ..
وهي ما زالت خائفة .. ولكنها تعرف ماذا تفعل ستختبئ فى أحضانه كالعادة ..
تشاهد خلسة الجبال وهو يصف درجات اللون الأخضر
للجبال الشاهقة والأودية السحيقة .. وزرقة البحر الفيروزى البادية فى الأفق
بتدرجاتها وتمثال سيدة لبنان العملاق المطل على البحر فى مهابة ..
هشام يخبرها بابتسامة : انظرى على هذا المنظر
الخلاب سيدة لبنان وزرقة البحر تعانقها
وكأنها سيدة الكون .
تسأله بدلال : هل هي جميلة مثلى ؟؟؟
يلثم وجنتها وقد تشربت ببرودة الجو من حولهم : انت
اجمل ما في الكون هكذا انتى في عينى وقلبى ..
كانت ترى بعينيه وتعرف الدنيا من خلال كلماته ..
يكفيها أن تسمع صوته لتتخيل الصورة التى ينقلها
لها فى همس حنون .. وربما تسترق النظر من عين واحدة والأخرى مغمضة في صدره ..
دائماً ما كان يقوم بدور المرشد السياحى وهى
تستمتع بدور السائحة .. كانت تتذوق الجمال أينما رأته .. حتى عندما تسمعه يصفه
تتخيله كأنها تراه بعينيه هو .. كانت تتذوق الجمال بروحها
كانت تملك قمة الشعور بجمال الحياة من حولها ...
تتذوق الجمال والطبيعة الخلابة تحب الكون بكل
عطائه ...
وهشام كان بمثابة العطية الآلهية الكبرى لها ..
هشام هو عشقها .. وكل حياتها .. هو وحده .
كانا يحاولان التزلج على الجليد فى هضبة جبل
كسروان وهى تتمسك بيده فى قوة وتميل فى جميع الاتجاهات فى محاولة للتوازن على
الزلاجة ثم يقعان سوياً ويضحكان فى سعادة .. ويحاولان مرة أخرى وكل أملهم بضع
خطوات من التزلج الناجح .. ويحاولان مرة تلو الأخرى حتى ينالا خطواتهما الأولى من
التزلج الناجح سوياً بعد الوقوع لمرات عديدة .. سعادة الخطوات معا .. سعادة النجاح
معا ..
كان هشام يجيد التزلج لكنه يفتعل السقوط ليكون الى
جوارها على الجليد وقد تناثر رذاذ الثلوج على وجهيهما وتناثرت السعادة داخل
ارواحهم ..
معا يسقطان .. معا سعيدان .. هو لن يتركها وحدها ابداً
..
***********
مناوبة الليل
فى
الممر الممتد بين غرف المرضى بالمستشفى استوقفنى ليسأل عن حالة شقيقه عندما كنت
أخرج من غرفته للتو ..
أخبرته
برتابة : أنه ما يزال فى غيبوبته .
الكلمات
قليلة للشرح .. طلب إيضاحا أكثر
في
عجلة اخبرته : لا نعرف سبباً لها من
الناحية الجسدية على الأقل فهو لا يعانى من مرض ما .... في أغلب الأمر هي حالة من
الصدمة النفسية .
أظنه
يعرف الحالة من زملائى لكنه يريد التحدث ..
لكنني
نسيت الكلمات المجاملة المنمقة ..
منذ
فترة بعيدة وأنا منهمكة فى محاولة إنهاء رسالة الدكتوراه من ناحية ومتابعة حالة
المرضى من حولى ..
كان
فضولي الوحيد فى الحياة إنقاذ أرواح الآخرين ومعرفة أمراضهم .. وسعادتي هى شفاء
أحد هذه الحالات ..
ظللت أحملق فى وجهه ولا أجد من الكلمات ما يمكن
أن يرضيه
كان
وسيماً مفعماً بالحياة .. وأنا باهتة بالهالات السوداء القابعة أسفل عيني من أثر
السهر الدائم ..
ما
الذي يعجبه فى مظهرى هذا !!
ربما
حلتى الزرقاء الخاصة بأطباء المستشفى ..
باقتضاب
أجيبه : سيكون بخير .. لا تقلق .
نطقت الكلمات وتحركت نحو غرفتى فالنعاس يقتلنى
..
لكنه
كان يسير الى جانبى وهو يثرثر ..
كل
ما التقطته أذناى من كلماته انه مهندس وأن اسمه عصام ..
وصلت
حتى باب غرفتى فليكن لست مستعدة لسماع المزيد ..
توقفت
واستأذنته في أدب ودلفت الى غرفتى تاركة خلفى نظرة غير مصدقة وعلى وجهه حمرة الخجل
والأحراج الذى تسببت له فيه وربما الحنق من تصرفى الخالى من أدنى ذوق ..
كم
أنا سخيفة لكن لا ذنب لى فى هذا .. الحاجة للنوم تقتل كل إحساس آخر ..
وفى
غرفتى ألقيت بجسدى المتعب على السرير وغفوت لساعة لا أكثر ..
استيقظت
على صوت الممرضة تطلب منى الإسراع لوجود حالة تحتاج لجراحة عاجلة ويطلبون وجودى
على الفور ..
مشيت
كالمخدرة نحو غرفة العمليات وهو كان يقف بباب الغرفة رمقته بنظرة جانبية ..
اعتدل
فى وقفته وكأنما ينتظر منى ألقاء التحية ..
كانت
عينه تقول هذا .. مجرد إلقاء تحية عابرة ..
وفعلتها
ولا أدرى السبب : مساء الخير ..
وهززت
رأسى كالهدهد وهو يبادلنى التحية ويهم بمتابعتى في الممر الطويل كنت ألمحه بطرف
عينى وأسمع صوت خطواته على الأرضية تحدث صدى في هذا السكون الليلى المطبق ...
دلفت
الى غرفة العمليات و انهمكت في عملي ..
حين
خرجت من غرفة العمليات كان واقفاً ينتظر خارجها ..
نظرت
نحوه بدهشة إلا أنه فاجأني بدعوته لاحتساء فنجان من القهوة بكافتيريا المستشفى .. :
دكتورة أسماء هلا قبلت دعوتى لقدحين من القهوة .. فالأرهاق بادى عليك ؟؟؟؟
حقيقة
كنت احتاج لبعض القهوة وبعض التغيير فى نمط حياتى الممل .. مهلاً كيف عرف أسمى ؟؟؟
يالى
من حمقاء وهذه اليافطة المدلاة من عنقى تحمل بياناتى
هززت
رأسي في استسلام موافق لا أدري سببه الحقيقى فعادة أهرب لأقصى الأرض منفردة بنفسى وأوراقى
البحثية والمراجع العلمية الثقيلة وحلمى بنيل درجة الدكتوراة .. أو الى النوم ..
جلست
أحتسي قهوتى بنهم وهو يثرثر بذات النهم ولا يكف عن الكلام ..
وأنا
أهز رأسي مفتعلة الإصغاء لكن فى الحقيقة كنت فى حالة من الانفصال الوجداني التام
...
تثاءبت
لمرات عديدة .. وهو شعر بالإحراج للمرة الثانية ..
أنقذني
من الموقف طبيب زميل لى توجه نحوى يخبرنى بحاجتهم لى فى العناية الفائقة ...
استأذنته
وهربت دون انتظار الإجابة ..
فى
الصباح كنت استعد للذهاب للمنزل لكن طرقات على باب الغرفة استوقفتنى .. عمل آخر
ومريض آخر يحتاج الى رعايتى من المؤكد أحد الزملاء أو أحد ما من طاقم التمريض ..
فتحت
الباب لكنه كان هو عصام ..
تجمدت
فى مكانى للحظة من الدهشة لم أكن أتوقع جرأته هذه ..
تبددت
الدهشة فور سماعه بأسارير متهللة : هشام
أفاق من غيبوبته .. هل يمكن أن تأتى معى
سألت
نفسى .. هل لا يوجد غيرى في المستشفى ؟؟
لكننى
أتفهم الأمر سريعاً فهذا حال أقارب المرضى بمجرد أن يعرفون أسمك ويتبادلون معك بعض
الكلمات المتوددة فهم يعتبرونك مباح وخاص بهم كلياً .. أو ربما هو يستغل الأمر
ليتودد لى ربما .. لا ليس ربما بل بالتأكيد عيناه تقول هذا ..
مشيت
بآلية مضحكة نحو الغرفة ..
كان
راقداً فى السرير ودمعات قد طفرت من مقلتيه ..
وقفت
الى جانب الفراش أتابع الأجهزة بتفحص ..
فوجئت
به يمسك بيدى فى رقة بالغة وهو يردد : رواء ..
إرتعشت
.. نظرت تجاهه .. التقت عينانا ...
شعرت
بقلبى يرتجف ولا أعرف السبب ربما من أثر المفاجأة ..
سحبت
يدي من بين أنامله فى بساطة
سألنى
: لماذا تأخرت ؟؟
الحيرة
كانت تبدو على ملامحى أخبرته : لقد جئت على الفور ..
هز
رأسه فى تفهم وهو يطلب منى في استجداء عدم تركه مرة أخرى .. ويلوح بيده في أعياء :
لا تتركينى أبداً .. أبداً يا رواء
وظل
يكررها مرات ومرات ..
كل
ما تمنيته أن يصمت لثوانى حتى أفحصه .. لكن بلا جدوى
هو
مجنون بالتأكيد ..
لا
أدرى بماذا أجيب .. أو ماذا أفعل ..
فليكن
الهروب إذا
أسرعت
بالخروج من الغرفة وتوجهت الى غرفة الأطباء المناوبين وطلبت من أحد الزملاء متابعة
الحالة .
وفررت
في سرعة إلى المنزل ..
الى
غرفتى المظلمة ..
إلى
مملكتى ..
الى
سريرى ..
الى
النوم ..
**********
لدى حب
القمر
يلقى بضوئه الخافت الساحر على ساحل بافوس المتعرج من أثر الأمواج التى تلطم حبات الرمل
فى تناغم بين المد والجزر
كانا يسيران جنباً إلى جنب تتشابك أيديهم وهى
تعبث بقدميها مع الأمواج فى مطاردة ممتعة ..
وهو
يراقبها فى سعادة ويرمقها بنظرة كلها عشق ..
لكنها
مطرقة برأسها تنظر للرمال التي تحملها الأمواج البيضاء
كانت
شاردة الذهن وهو لاحظ ذلك فوضع يده على كتفها وضمها إليه وهو يشير الى صخرة
أفروديت القابعة قرب الشاطئ
:-
هل تعرفين أفروديت آلهة الحب والجمال عند الإغريق .. هذه الصخرة القابعة هناك هي
تميمة العشق الأبدى .. الأسطورة تقول إن من يسبح حول الصخرة يحصل على الحب والجمال
والشباب الدائم ..
ما
زالت شاردة .. ما بالها اليوم ؟؟؟ كان يسأل نفسه لكنه تابع يقص عليها أسطورة
أفروديت وأدونيس الشاب الرائع الجمال الذي أغرمت به .. والورود الحمراء الدامية
التى نبتت من دمائه
همس
في أذنها : أنت اجمل من أفروديت ذاتها .. وأنا أجمل من أدونيس ذاته .. ونحن
الأسطورة وليسوا هم
ضحكت
كما لم تضحك قبل وهو يلثم وجنتها ويتابع الهمس فى أذنها : أخشى أن تغار منك
أفروديت يا حبيبتى .
في
اليوم التالي كانت تشعر بالتعب طلبت منه البقاء في الفندق
لكنه
يعرف أنها كسولة بطبعها فيحثها على طريقته بزغزغتها بانامله وهو يطارده في الغرفة
ليحملها على الضحك المجلجل فتجرى لتختبئ منه في الحمام وتغلقه عليها من الداخل وهو
يطرقه في لحن ويردد أغنيته المعتادة في هذه المواقف .. كانت أغنية شحات الغرام
وكانت في العادة ترد عليه : اسرح .. روح
وهو
يردد : لله لله
لكن
هذه المرة لم تكن ترد .. كانت خلف الباب والدموع تنساب على وجنتيها .. وعندما لم
يتلقى منها رداً .. أصابه القلق عليها وظل ينادى عليها فأخبرته أنها ستأخذ حماماً
دافئاً ليخرجوا بعدها ..
كان
يشعر أنها ليست على ما يرام لكنه يعرف أنها أحياناً تصيبها نوبات من الحزن بسبب
موضوع عدم الأنجاب ..
جلس
على طرف الفراش يفكر فنبرة صوتها تحمل رنة البكاء .. هو يعرف أنها تبكى الآن ..
ترك
الغرفة وانصرف .. وعند عودته وجدها راقدة في الفراش لكنها مستيقظة .. استقبلته
بابتسامة ينفطر لها قلبه .. باقة ورود حمراء بيده قدمها لها وهو يخبرها : تفضلى
ورود أدونيس .. لكنها بلون دمائى أنا . فلقد سرقتها من أجلك والشوك مزق أصابعى ..
أنظرى ..
تعرف
أنه يكذب لكنها قبلت أصابعه وضحكت وضمت باقة الورود وهى تستنشق عبيرها وتهيم بجمال
عطرها
يخرج
من الحقيبة التى بيده فستان أحمر جميل ويرفعه بيده وهو يسألها : ما رأيك ؟؟
تترك
الفراش في نشاط وكأن الحياة قد دبت فيها فجأة وتقوم لتحتضنه وتقبله : هيا بنا
لنسهر إذاً .
وفى
سرعة ترتدى الفستان الذى يزيدها فتنة ويتوجهان الى قاعة السهر بالفندق ويجلسان
لتناول الطعام ..
لكن
تنساب في القاعة موسيقى أغنية لدى حب – للمغنى بسكال ترزيس
يتركان
الطعام ويقوما ليرقصا سوياً وهو يهمس لها بمعانى كلمات الاغنية ..
كانت
تشد على أصابع يديه وترخى رأسها على كتفه ..
ظلا
طوال الأمسية يرقصان كما لم يرقصا من قبل ..
أغنية
تلو الأخرى ..
كانت
خطواتها ثقيلة وكلما طلب منها الرجوع الى الطاولة ترفض وتطلب منه متابعة الرقص ..
ربما
كانت هذه رقصة الوداع معه ...
لم
يتناولا أي طعام ..
انتصف
الليل وهم كذلك حتى تعبت .. لا بل بلغ التعب مبلغه منها
أخيراً
طلبت منه الذهاب للغرفة ..
كانت
متكأة بثقلها كله على يديه فحملها حتى وصلا ..
وضعها
في الفراش ... ألقت بجسدها المتعب على الفراش وطبعت قبلة على شفتيه وطلبت منه
زجاجة الماء ..
أخذت
الدواء في خلسة ..
عاد
حاملاً الماء ... شربت في نهم غريب ..
سألها
: ماذا بك ؟؟ هل تشعرين بسوء ؟؟
أغمضت
عينها وأولته ظهرها حتى لا يرى الدموع : لا شيئ سأكون بخير في الصباح .. ربما
أرهاق السفر .. تصبح على خير يا حبيبى .. من فضلك أطفئ النور وضمنى لأنام ..
سألها
في استغراب : ألن تبدلى ثيابك ؟؟
لا
أجابة .. تركها وشأنها يعرف أنها تدعى النوم .. وأنها ليست على ما يرام لكنه يعرف
أنها بين الحين والآخر تمر بمثل هذه الحالة .. لكن ليس بهذا السوء .. فليكن في
الغد ستكون بخير بكل تأكيد
بدل
ثيابه ظل الى جوارها يعزف بين خصلات شعرها بأنامله ويردد الأغنية بصوته الرخيم ..
نامت
كطفلة عائدة من مدينة الملاهى وقد أثقلها اللعب ..
نامت
كسكير شرب بحر من الخمر ليخفى أوجاعه فيه ..
المسكن
القوى أنهى الأمر مؤقتاً ..
وهى
غارقة في أحلامها الجميلة التي تابعت فيها رقصتها معه .
في
الليلة التالية سبحا سوياً حول الصخرة على ضوء القمر
كما
في الأسطورة .. عندما انتهيا من السباحة كانت ترتعش بقوة .. دثرها فى حنان بجسده
..
ولفها
جيداً بالبرنس القطنى الثقيل دون جدوى ..
إن
الجو ممتع عدا نسمات البحر الباردة مساءاً ..
ربما
أرهقتها السباحة ..
حملها
بين يديه وهو يطلق الدعابات ليرى ابتسامتها وسار فى اتجاه الفندق .. اما هي فقد
تحولت شفتاها للزرقة وترتعشان من البرد وهو يقبلها فتبتسم وسط ارتعاشها .. نالا
حماماً دافئ وانكمشت فى أحضانه كهرة وأغمضت عينيها واستسلمت للنوم الهادئ بجوار
قلبه
***********
غرفة سبعة
فى
المستشفى المرضى هم أرقام وحالات نادراً ما نتذكر أسماؤهم .. هكذا في الغالب نشير
للمرضى ..
عندما
عدت للمستشفى فى المساء كانت حالته أفضل من ذى قبل من ؟؟
بالتأكيد
مريض الغرفة رقم سبعة هو من أقصده ..
دلفت
الى حجرته وبيدى جهاز قياس الضغط ..
أمسكت
بذراعه لأقوم بعملي .. لكنه أمسك بيدى وسألنى : أين ذهبت ؟؟
ارتعشت
وانا أجيب بتوتر وابتسامة باهتة ترتسم على وجهى : كنت بمنزلي .
قال
فى رجاء مرير : لا تتركينى .. أتوسل لك لا تتركينى .. حياتى لا تعني شيئاً دونك.
شعرت
بحاجة للبكاء ولا أعرف السبب ربما هى الشفقة ..
ابتسمت
وقمت بعملى سريعاً فى محاولة للهرب بدموعى إلى حيث غرفتى لكنه امسك بيدي وقبلها ..
سرت
قشعريرة فى جسدى كله وكدت اسقط فلم تعد ساقى تقوى على حملي .
انتزعت
يدى بقوة وجلست على المقعد بجانب الفراش ألتقط أنفاسى كمن كان يعدو لأميال وأميال
..
ما
إن تمالكت نفسي حتى أسرعت الى خارج الغرفة ..
كان
عصام يقف خارجها كعادته ..
ما
إن رآني حتى سألنى عن حالة شقيقه ..
كانت
دموعى تطفر من عينى رغماً عنى ولا أجيب .. ثمة صمت يلف كيانى ..
أصابه
الهلع ودلف الى غرفة شقيقه سريعاً ثم عاد ولحق بي وانا أمشى فيما يشبه العدو ..
سألنى
عن سر دموعى ؟؟ أجبته باقتضاب : هى لا شيء مجرد دموع من أثر السهر والإرهاق
أو ربما الحرقة التى يسببها الفورملاين .. فقد مررت بالمعمل في طريقى
دعاني
لتناول قدح من القهوة فى رقة ..
ترددت
كثيراً لكنى ذهبت معه ..
شعرت للمرة الأولى بحاجتى أن أعرف عن مريض الغرفة
سبعة الذى أقوم برعايته ..
جميع
الأطباء يحذرون من الاندماج مع المرضى الى الحد الذى يؤثر فى الطبيب المعالج .
لكننى
غير أي طبيب ... هكذا ظننت بحماقتى .
سألته
عن شقيقه وسبب حالته هذه ..
كان
يحرك الفنجان بين أصابعه فى توتر ... وبدأ يثرثر كعادته لكننى كنت هذه المرة مصغية
باهتمام
:
لقد فقد هشام زوجته التي كان يحبها ..
حين
جاء الى المستشفى كان عائداً من جنازتها ولم يتحمل الموقف سقط مغشياً ونحن في
المقابر ..
المشكلة
أنها ماتت فجأة دون سابق إنذار وبصورة درامية أختفت من حياته ..
كانا
فى قبرص فى رحلة سياحية وهناك شعرت بالمرض ظن إنها ربما نزلة برد عادية عندما عادا
من هناك لم تلبث وماتت بين يديه في منزلهم فور عودتهم حتى أنه لم يجد الفرصة
لمراجعة طبيب إلا عند وفاتها حين استدعاه للمنزل وهو يظن أنها في حالة من الأغماء
..
عندما
أخبره الطبيب ثار وأنفعل عليه كاد أن يضربه
ظل
يصرخ ويحتضن جسدها ملتاعاً ويهزها في قوة لتصحو توسلها أن تفتح عينيها أن تكلمه
وتخرج من صمتها ..
تنهد
وزفر بقوة : كان هشام يحبها جداً .. مما سبب له صدمة لم يحتملها في النهاية
توقف
عصام عن الكلام وسبحت بعقلى في بحر من الشرود ونسيت حدود الزمان والمكان من حولى
..
وسؤال
في داخلى يتردد بألحاح : هل يوجد في الدنيا مثل هذا الحب ؟؟
ما
هذا الأنسان وما هذه المشاعر ؟
هل
هي حقيقة أم أسطورة تحكى ؟؟؟
وبالطبع
مثلى لن يعرف أبداً الإجابة ..
سألنى
عصام عن سبب شرودى ؟؟
أخبرته
في بساطة بما يجول بخاطرى ..
هز
رأسه ايجاباً وابتسم وإن كانت ابتسامته تقطر غيرة ..
شعرت
بهذا فى كلماته وفى ملامح وجهه ..
شعرت
بأننى تبسطت على غير عادتى ويجب أن أنصرف
قمت
واستأذنته في الانصراف
فاجأني
بسؤاله : ألا تريدين معرفة شيء عنى؟
كان
السؤال مباغتاً ..
وقفت
ابحث حولي عن إجابة تحمل قدراً من التهذيب ..
لكن
ما بدا على ملامحى هو الشعور بالحيرة
بادرني
: انا معجب بك يا دكتورة .. ولا أعرف رأيك في هذا ؟؟
كنت
مصدومة فعلياً
لم
أمر قبلاً بمثل هذا الموقف
وقد
أخذنى على حين غرة وفى غفلة ..
كنت
أتمنى أن اختفى بطريقة سحرية ..
تمنيت
لو أن الساحر يبسط رداءه في الهواء وفجأة أختفى تماماً كما في السيرك ...
لكن
لا سحرة ولا حواة حولى الآن
يدى
تلوح فى الهواء تبحث عن إجابة
أو
ربما عن رداء الساحر
شعر
بحيرتى وعجزى فطلب منى التفكير فى الأمر وأخذ وقتى كما يحلو لى ..
كان
هذا هو طوق النجاة ..
هززت
رأسى فى بلاهة وانصرفت عدواً ...
***********
طفولة
الشغف
.. كان شغفهما السفر والرحلات .. التجربة لكل ما حولهما مذاق الطعام التي تشتهر
بها البلاد التي يذهبون إليها .. تذوق الجمال في مشهد في معلم من المعالم ..
معانقة الطبيعة وجمالها .. كان لب هذا الشغف المكان الذى يؤيان إليه أغلب أوقات
العام ... الاسكندرية .. كان يملك شقة بمنطقة ميامى تطل على البحر مباشرة .. كانت
ملاذهم خلال العام وخصوصا فصل الشتاء .. من يعرف متعة المدينة في الشتاء والأمطار تغمر الكورنيش ونوات البحر
تدفع الأمواج بعنف لتصطدم بالسور المنخفض للكورنيش مسببة نافورة غير منتظمة من
المياه ..
حين
يختلط مذاق الماء المالح بمذاق قطرات المطر الغذبة على الشفاه .. الودق رؤيته
ستسلب عقلك بكل تأكيد كأنك تفتح شلالاً من المياه .. السماء .. النوة .. البحر ..
المطر .. جميعهم في عناق منفرد يذهل الروح ويغسلها ..
الماء
من كل صوب وكأنه يطهر الكون من آثامه .
كانت
الشقة في الطابق السابع عشر ..
حين
تبدأ الغيوم في التشكل
يحتضنها
ويجلسان خلف الزجاج السميك يراقبان في استمتاع ..
في
الأيام المشرقة يجلسان بالشرفة يتلذذان بدفئها المختلط بهواء البحر المحمل باليود
. وأحتساء القهوة في تلذذ
يذهب
لفرع الشركة يباشر عمله وما أن ينتهى يعود مسرعاً إليها .. يخرجان أو يقبعان في
أحضان أحدهما الآخر ..
إنهما
يعيشان متعة الحياة سوياً .
على
الكورنيش عند بئر مسعود أخرج من جيبه عملة معدنية وأعطاها لها وامسك بين أصابعه
عملة معدنية أخرى وطلب منها أن تتمنى أمنيتها ويلقيان العملة معاً فى البئر فى آن
واحد ...
قربا
العملة من شفاههما وهمسا بكلمات سرية وألقوها في غياهب البئر .. وتابعا سقوطها
لقاع البئر سوياً وتدافع الماء المصطدم بالصخور بقوة فى وجهيهما فهرعا يعدوان
والضحكات تتناثر من فمهم فى سعادة وكلاهما يمسح عن وجه الآخر المياه المتناثرة ..
وأمسك
كفاه برقة وجهها وهو يسألها عن أمنيتها ؟؟
ابتسمت وقالت : أنت أولاً ...
في وله : أنت تعرفين أمنيتى أن نبقى معاً للأبد حتى
نصير كهلين يتعكز كل منا على يد الآخر ..
أمسكت بكفه وقبلتها ..
فسألها : وأنت ؟؟
قالت بعفوية : تمنيت طفلاً لأسعدك !!
ابتسم والمرارة تملأ حلقُه : أنا سعيد يكفينى أنت
.. ويكفيك طفل واحد .. هو كبير قليلاً ومجنون بحبك كثيراً .. لكنك امه وكل دنياه. ابتسمت
فى مرح : طفل أنا ابنته ..
وتعالت ضحكاتهم وانطلقا يعدوان فى سعادة وثوبها
يرفرف فى الهواء مثل أجنحة الفراشة ..
وهو يفتعل عدم اللحاق بها ..
كانت تروق لها اللعبة وتشعر بطفولتها السعيدة وهى
تمارسها معه ..
ويروق له شعورها بالسعادة ...
كان يعلم أنها لن تستطيع الأنجاب منذ البداية لكنه
أخفى عنها هذا بالاتفاق مع الأطباء كلما صممت على الذهاب لأحدهم بنصيحة من أحد
الأقارب أو الأصدقاء يذهب معها ...
كان يريدها أن تعيش وداخلها الأمل فى ذلك الطفل ..
الجميع نصحه بالزواج أسرته أصدقاؤه لكنه كان يرفض
بشدة .. حتى هى طلبت منه مرات عديدة مؤخراً ..
وفى كل مرة يخبرها أن لديه طفلة هى كل حياته ..
ويشير نحوها بأصبعه وتحاول عض إصبعه وهى تفتعل عضة
بأسنانها البيضاء الناصعة فى الهواء وهو يخفى إصبعه سريعاً فى لهو محبب لهما
والضحكات تعلو الشفاه ..
ثم تلقى بنفسها فى أحضانه وكلما حاول ربت وجهها
بيده عضته برقة وهو يفتعل الألم ويبتسم ..
فتقبل باطن يده وتمسكها بكلتا يديها وتضعها على
وجهها .. إذا قد استكانت القطة واكتفت من اللعبة ..
*************
طيف
أصبحت
الغرفة رقم سبعة مقر تواجدى الجديد كنت أجلس إلى جوار سريره وهو يقص على مسامعي
تفاصيل الحياة بصيغة هل تذكرين عندما ذهبنا ... هل تذكرين عندما كنا ... كان
يعاملني كأنني رواء حبيبته ..
لذا
كنت دائماً أنكمش فى المقعد بعيداً قليلاً
فما
أن أقترب منه حتى يمسك بيدى ويقبلها ...
لكننى
لا أنفك أعود لذات المقعد بذات الغرفة وكأننى مساقة بلا إرادة ..
كنت
اجلس معه لساعات غير مبالية بالأحاديث الجانبية والهمز واللمز من طاقم التمريض
والأطباء ..
فقد
أصبحت طبيبة الغرفة رقم سبعة مثار حديث الجميع ..
لكن
هناك شيء يدفعني دفعاً الى غرفته ..
أنهى
عملى وانطلق نحوها ..
يستدعوني
للعمليات وعندما أفرغ اجد أقدامي تسوقني نحوه كأننى مسحورة .. نعم كنت مسحورة
بقصته ..
كنت
أشعر بالغيرة منها .. هى قد نالت كل هذه السعادة ..
وحتى
عندما ماتت نالت كل هذا العشق والوله والوفاء ..
كان
يتكلم عنها دائماً بصيغة الحاضر ..
هى
فى قلبه ليست من الماضى ولن تحمل كلماته عنها صيغة الماضى أبداً ..
يناديني
دوماً باسمها وكنت أشعر بالسعادة ..
لم
أكن أبالى إن كان يراها من خلالى ..
فليكن
المهم أنه يرانى ..
نعم
لقد أحببته هذه هى الحقيقة .. ألم أقل لكم إنى حمقاء
كان
يتعافى شيئاً فشيئاً وشعرت بقرب رحيله عن عالمى ..
نعم
شعرت بقرب رحيله عن الغرفة رقم سبعة ..
الغرفة
التى أصبحت كل حياتى ..
لا
أعرف ماذا سأفعل بعدما يذهب .. لقد تغيرت حياتى كلها .. أصبح صوته كل حياتى ..
وجهه سر سعادتى ..
حتى
أننى كنت أداوم بالمستشفى لما بعد عملى وأقبل مناوبات عمل زملائى بكل ترحاب وهو ما
لم يتعاده أحد منى فدائماً أنا التى تطلب من الزملاء أن يتحملوا مناوبات بدلاً منها
حتى أتفرغ لرسالة الدكتوراة قدر المستطاع ..
لم
أعد أذهب الى المنزل إلا قليلاً ..
وحين
أكون بمنزلى اشعر بلوعة وشوق للعودة
كان
النوم هو الشيء الوحيد الذي يردعنى .. وها هى تزورنى .. من هي ؟؟؟
رواء
جاءت واقتحمت حلمى فى وداعة ..
كنت
أعرفها من الصور التى يحتفظ بها على هاتفه ..
مئات
اللقطات لهما معاً في كل مكان ..
ها
هى تجلس جانبي على طرف الفراش وتوقظنى ..
نعم
إنها هي ..
أتأمل
ملامحها وعينى تدور في المكان ..
أنه
منزلى بكل تأكيد .. وهذه غرفتى ..
لكنها
تسبح في ضوء باهر
سألتنى
بإقرار : أنت تحبينه لكن هل تتحملين وجودى بينكما ؟؟
تعجبت
من السؤال لكن بلهفة أجيبها : سأتحمل أى شيء ...
تبتسم
: لن تستطيعي ..
تطفر
دموعى فى أسى دون داعى .. ربماعلى نفسى ..
تربت
بحنان على رأسى : أريده أن يكون سعيداً وأعتقد أنك قادرة على إسعاده و سأساعدك من
أجله فقط ..
كنت
غارقة فى حيرتى وهى كمن ألقى طوق النجاة ..
عينى
الزائغة تبحث عن النجاة : كيف ستساعدينني ؟؟
ابتسمت
فى صدق وسألتنى : هل ستقبلى ما أمنحه لك ؟؟
فى
عجلة : سأقبل أي شيء .. أى شيء غير بعده عنى ..
تبتسم
فى خبث : فلتعرفي أولاً ما سأمنحك !!
أما
أنا فصرت كمتسولة أطلب منها في رجاء وتوسل: فلتمنحينى أى شيء أو كل شيء .. المهم
أن أكون معه .. أن أكون حبيبته
اقتربت
منى وهى تهمس فى أذنى : سأمنحك طيفى ..
فى
حيرة أردد : ماذا ؟؟؟ ما هذا الهراء ؟؟ لا يعقل هذا بحال من الأحوال .. لا يوجد
شيء كهذا من الأساس .. أنت تتلاعبين بى ربما أنت تنتقمين منى لأنى أحببته ..
هى
فى همس : هل تعرفين لماذا ينادي بأسمى كلما رآك ؟؟ هل تذكرين كل مرة يقبل فيها
يديك ؟؟ يجب أن يعود لن أتركه يذهب في بحثه عنى حتى ينتهى بالموت
أنا
بحسرة : وأنا كالحمقاء كنت سعيدة رغم غرابة الأمر .. هل كنت هناك ؟؟
ابتسمت
وهزت رأسها بالموافقة : أنا لم أفارقه أبداً .. حين دخل غيبوبته كان يريد أن يبقى
معى كان يتجه نحوى بروحه .. حينها وعدته أنى سأعود وسأكون معه .. ووجدتك أنت ..
لأنى لا أستطيع العودة والوفاء بوعدى .. كنت أنت الحل .. عندما أمسك يدك لأول مرة
وارتعشت .. كان يمسك يدي أنا .. وعندما يقبل يدك فهو يقبل يدى أنا ..
تذكرت
الموقف نعم كل هذا حدث أنا أتذكر هذا : إذا كان يمسك يدك أنت !! ويقبل يدك أنت ..
هو يظن أني أنت !! هذا مستحيل .. هذا خيال .. أنت متوهمة .. أنا أعلم أننى أحلم
وسينتهى كل هذا عندما استيقظ ..
أبتسمت
بخبث وسألتنى : ماذا قررت ؟؟
سألتها
فى فضول : قررت ماذا ؟؟
لا
أدرى .. كيف سيحدث هذا ؟؟
وهل
سأكون أنت تماماً ولا يبقى منى شيء ؟؟
ابتسمت
بلطف : هو فقط طيفى ...
كان
الأمر جنونياً بالمرة لكنى أحبه ..
سألتها
باستسلام : مدى الحياة ؟؟
هى
بنبرة صادقة : هذا مرهون بك فلو احبك سأختفي فى هدوء
فى
تسرع ولهفة : أنا أقبل بهذا .. مهما كان الأمر ومهما كلفنى. وفى هدوء تام تسللت
إلى داخلي وكأنها تحتضننى .. شعرت وكأن جليداً انسكب داخلى وتسرب فى جسدى وتلاشى
..
ظللت
أسألها : هل انتهى كل شيء ؟؟؟ ولا إجابة ...
ظللت
أناديها ولا تجيب : رواء .. رواء .. وشعرت بيد تهزنى ..
كانت
أمي تجلس بجانبى فى الفراش وهي تتعوذ من الشيطان وتسألنى : هل كان كابوساً ما ؟؟
لا تقصيه يا ابنتى حتى لا يتحقق أخبرتها :
لا أدرى كابوساً كان أم حلماً المهم أنه ليس واقع ...
تحسست
رأسي بيدها كان جبينى ليتفصد عرقاً
ولكنه
بارد كالجليد ..
أمي
بحنان : يبدو أنك مريضة يا أسماء فلتستريحي اليوم من العمل ..
قبلت
يدها وقمت فى همة .. استحممت سريعاً وخرجت لأبدل ثيابي .. الغريب أننى جلست أمام
المرآة فى غرفتى أتزين ... نعم وللعجب أتزين ... فهذه المرآة فى غرفتى منذ طفولتى
.. كنت أقف أمامها لثانية أو اثنتين بالأكثر حين أهم بالخروج .. فقط لأتأكد من
مظهرى الجدى هل هو منضبط أم مبعثر .. لكننى الآن أقف أمامها وأضع مساحيق تجميل
بسيطة .. وأطلق العنان لشعرى من عقصته الأزلية .. أتركه منساباً فى نعومة ..
دخلت
أمى الغرفة وأبتسمت حين رآتنى : أخيراً اقتنعت بأنوثتك .. يبدو أن هناك شيء لا
أعرفه .
فى
دلال لا أعرف من أين أتى وفى خجل : لا شيء فقط بعض التغيير.
ذهبت
للمستشفى .. ونسيت كل شيء عن الحلم .. دلفت غرفتي بدلت ملابسي طرقات خفيفة على
الباب ..
كان
عصام يقف بباب الغرفة ..
ما
إن رآنى حتى ألقت الدهشة بظلالها على وجهه ..
يبدو
أن مظهرى الجديد يروق له ...
أخبرنى
أن هشام يريدنى ..
سرنا
جنبا إلى جنب وهو يذكرنى بطلبه توقفت ونظرت له وأنا أبحث فى عقلى .. عن أى طلب
يتحدث ؟؟
ابتسم وهو يخبرنى : كنت سأخبرك أن تنسى الأمر لكن يبدو
أنك نسيت بالفعل ؟؟ وضحك فى مرارة واضحة …
حاولت التذكر دون جدوى لم يسعفني عقلى على التذكر
.. اعتذرت له متعللة بالعمل وإرهاق السهر ورسالة الدكتوراة التى أصبحت لا أجد
وقتاً لها وحالات المرضى والحياة ..
أخذت أثرثر كمن كان فاقد النطق ثم عاد ونبت له
لسان فى حلقِه .. أثرثر حتى وصلنا لباب الغرفة لم أصمت لثانية واحدة ..
لم تكن الثرثرة يوماً من عادتي فأنا دائماً أصغى
ككائن من أذنين .. كلماتي سريعة مقتضبة .. شعرت بدهشته تزداد فهو دائماً من كان
يثرثر وأنا لا أستمع حتى ..
دلفنا الى الغرفة كان نائماً تعجبت ونظرت الى عصام
.. ارتبك وأقسم أنه كان مستيقظاً وطلبنى .. ابتسمت وتوجهت نحوه وقفت بجانبه وضعت
يدى أتحسس جبينه .. ثم بدأت أعبث بخصلات
شعره .. ووجدت نفسي كالمخدرة أميل نحوه وأداعب أرنبة أنفه بأنفى ليستيقظ ورأيت
عيناه العسليتين بهذا القرب للمرة الأولى لكننى شعرت بأننى رأيتها مالا أحصيه من
المرات .. وقبلنى وأنا مسبلة جفونى ومستسلمة تماماً لقبلته الرقيقة الدافئة التى
فجرت بداخلي براكين من العاطفة الجياشة والنشوة .. فهذه أول قبلة لى فى حياتى ...
أول قبلة بعد خمس وثلاثون عام عشتها ..
لا لم أعشها ربما ..
كنت أترنح كسكير مخمور فأرحت رأسى على صدره من أثر
الدوار الذى انتابها وخامرها وسألنى فى همس : متى عدت ؟؟
أفقت فجأة مما كنت فيه .. كان عصام فاغر الفاه لا
يصدق ما يراه ..
نظرت نحوه وشعرت بالحرج ..
أريد أن أبتعد ولا أستطيع وكأننى قطعة من المعدن
التصقت بمغناطيس قوى ..
هذا الدفء فى أحضانه لم أشعر بمثل هذه المشاعر
الناعمة ..
لم أشعر بمثل هذه السكينة قبلاً ..
أحمر وجهى خجلاً وأنا أجاهد لأبتعد .. وأحاول ..
واعتدلت أخيراً ...
ما الذى يحدث لى .. أنا لست كما ينبغى .. وانطلقت
من الغرفة بخطوات سريعة تكاد تشبه العدو حتى وصلت الى غرفتى .. وقفت وسط الغرفة
أدور حول نفسي كحيوان جائع ينتظر التهام فريسته التى تذوق منها قطعة صغيرة ثم
حالوا دون وصوله لها .. والأسئلة تطرح نفسها وتتكرر فى إلحاح فى عقلى ويكررها لسانى
دون وعى : ما الذى فعلته ؟؟
ما هذا التردي والانحطاط الذى انجرفت إليه ؟؟
كيف جرؤت وفعلت ما فعلت ؟؟
هذه ليست أنا بكل تأكيد .. نعم لست أنا
طرقات على الباب انتزعتني من تساؤلاتى المتلاحقة
فى تشتت .. أحدى الممرضات تخبرنى أن مدير المستشفى يطلبنى ..
سقط في يدي ... هل يعقل أنه عرف بالأمر؟؟ ..
هكذا سريعاً ..
هل قدم عصام شكوى أو أخبر أحداً بالأمر ؟؟
كنت كمن ارتكب إثماً ويخشى أن يطلع عليه أحد ..
الأفكار تتسارع وأنا أسير باتجاه غرفة المدير
الدكتور مراد .. وما يشغلنى ماذا سأقول وبماذا أبرر موقفى ؟؟
دلفت إلى الغرفة رحب بى وطلب منى الجلوس ..
سألني عن حالي وعن رسالة الدكتوراه والى أين وصلت
.. تنفست الصعداء وانطلقت أثرثر كببغاء كان مكمم الفاه .. ثرثرة قد تصل حد مناقشة
رسالة الدكتوراة ..
اذكر بعض النقاط التى تعيق بحثى في إسهاب حتى مل
الرجل وطلب منى التوقف بابتسامة حانية وسألنى عن مريض الغرفة رقم سبعة ....
هنا أسقط في يدي ..
هناك مئات الغرف لماذا هذه الغرفة تحديداً ؟؟
كان الحل هو ادعاء عدم التذكر .. ضممت أصبعين أمسك
بهما شفتى السفلى وأنا أكرر لمرات : الغرفة رقم سبعة !
واختلست نظرة نحوه كان يبتسم فى فهم وينظر من تحت
نظارته نظرة تقول : أنا أعرف كل شيء ..
وفى هدوء تكلم عن ارتباط الطبيب بمريضه وبالأحرى
المريض النفسي وكيف أن هذا قد يضر بكليهما ..
وفهمت ما يرمى إليه .. فأطرقت برأسي خجلاً مما زاد
الأمر سوءاً فقد اعتدل وهو يواجهني دون مراوغة : على ما يبدو أن الأمر فاق حد
المريض والطبيب ..
وبكل جرأة لم أكن أملكها يوماً أخبره دون خجل بهزة
صغيرة من رأسى ... كم أنا حمقاء ألم
أخبركم قبلاً ..
وهنا ساد صمت طويل فى الغرفة وهو يفكر ويحرك قلماً
يمسكه بين يديه وينقر به مكتبه الخشبى ..
وفى رزانة ووقار : أنا أعاملك كابنتي وأنت تعرفين
هذا.. لكن هذا المريض فى أزمة نفسية وعصبية لفقده زوجته بما يعنى أنه يحبها فوق
العادة .. و ارتباطك به سيكون محض جنون .. ومنذ الآن ستبتعدين عن هذه الحالة ....
وسيتولى رعايته طبيب آخر .. وعليك الالتفات لرسالة الدكتوراة ومناقشتها فى أقرب
فرصة .. وربما أخذ إجازة لفترة يكون كفيلاً بالأمر ... اتفقنا
لم أبدى سوى الاستسلام التام فهو محق فى كل كلمة
قالها .. لكننى لا عقل لى ..
قلبى هو ما يحركنى في نزق وتهور لم أكنه فى حياتى
..
هذه لست أنا !! هذه لست أنا !!
ساقتنى أقدامي نحو غرفته كالمخدرة كان نائماً وفى
هدوء جلست في مقعدى الذي ألِفنى وألفته من كثرة جلوسي عليه ... كنت أنظر إليه وهو
نائم فى وداعة ..
ماذا أفعل ؟؟
العقل والمنطق يحتم الابتعاد الى أقصى حد ممكن ...
وقلبى يعترض وبشدة يكاد يصرخ بين ضلوعى ...
ما هو الصواب وما هو الخطأ ؟؟
أصبحت لا أعرف .. انقلبت حياتي رأساً على عقب ..
من الحياة الروتينية الرتيبة الى هذا التحول
المجنون ..
وجدتنى أتحرك نحوه وأقبل وجنته فى رقة .. وأنا
أحاول منع نفسي من هذا دون جدوى .. وأصفف شعره الأسود بأناملى فى ولهْ وحب .. ثم
استدرت لأنصرف والدموع تتدفق من عيني دون أدنى سيطرة منى .. رمقته بنظرة أخيرة ثم
خرجت من الغرفة .. غرفة عشقى الذى أصبح فى عينى درباً من المستحيل فى لحظات ..
هكذا بدا لى الأمر جلياً قاتماً شديد السواد .
*******
من منا لا يعشقه ؟؟
فى المنزل جلست بالبلكونة
التي لم تخطوها قدمى منذ ..
حقيقة لا أذكر .. ربما
منذ أعوام ..
كنت سجينة أبحاث
الدكتوراة والمستشفى والمرضى ..
سجينة حقيقية لا تتمتع
بأى حياة من أى شكل ..
هى مجرد زنزانات فى أماكن
متفرقة وأنا أتنقل بينها فى آلية مفرطة ..
أفقت من خواطرى على صوت
أمى فقد دخلت وجلست تكلمنى ولم أشعر بها : أسماء .. أسماء ..
فى
تدارك متأخر وبإحباط : نعم .. هل تريدين شيئاً يا أمي ؟؟
كانت
تريد أن تطمئن على حالى ما بال شرودى وسبب عدم الذهاب للمستشفى وحالة الضيق تلك ..
أسئلة لا أعرف إجابتها .. كانت الإجابة الوحيدة هى الدموع ...
انتفضت
أمي فى فزع وهي تضمني لصدرها وتربت ظهرى فى حنان ...
كنت
فى شوق حقيقى لمثل هذه الضمة ومثل هذا الشعور الذي أفتقده ..
اكتشفت
أننى لم ارتمى في احضانها منذ زمن ..
حين
تفيض مشاعرنا نكتشف بأننا فقدنا الكثير بسبب انشغالنا بالحياة أو بما نسميه حياة
وهو فى حقيقته حالة من الجمود والموت ..
ضممتها
بكل قوتى وهى تحاول أن تهدئ من روعي وزرفت دموعها وهى تسألنى ما بالى ..
ثم
أمسكت بيدى واقتادتني لحجرتى وجلسنا على طرف الفراش وضمتنى وطلبت منى أن أفتح قلبى
وأقص عليها ما يعتمل به ..
وأخذت
أثرثر وسط دموعى وتنهداتي وشهقاتي : إننى أحبه يا أمى ..
لم
تقاطعنى للحظة ظلت تسمعنى وتربت على فى حنان وتصغى باهتمام ..
لكنها
كانت فى حيرة مثلى تماماً .. الأمر بالغ التعقيد ..
وأى
أم تريد لأبنتها شاباً يحبها ويسعدها وهو مالم تراه فى قصتى ..
كانت
ترى تعاسة ويأس حقيقي .. كانت ترى أمراً بالغ التعقيد ..
شخص
يعشق زوجته الى حد سقوطه فى غيبوبة إثر وفاتها ..
ماذا
سأكون فى حياته ؟؟
كانت
تواسيني وتعدني بأننى سأنسى وأجد الشخص المناسب ..
لكننى
كنت أشعر بغير هذا ..
جلست
جانبى تهدهدني وتقص على قصص أخرى لأناس حصلوا على سعادتهم بعد أن ظنوا أن من أحبوه
هو أقصى ما يتمنونه وتخلى عنهم أو فرقتهم الدنيا ثم وجدوا سعادتهم مع شخص أخر ..
ومؤكد أنني سأحصل على سعادتى ونصيبى يوماً ما ...
كانت
كل قصة ترويها يبرز هشام فى خيالى ليصبح هو بطل القصة الذي يحمل السعادة وينقذ
الأميرة من تعاستها التى عاشت فيها .. وغفوت ..
لا
أعرف كيف غفوت ..
ربما
الإرهاق واليأس والإحباط والصداع من أثر الاحتقان والدموع ..
فى
النهاية نمت كصخرة .. مجرد ظلام دامس ..
ولا
أعرف لكم من الوقت نمت لكننى أفقت على أمى تربت على يدى وتخبرنى أن هناك شخص
ينتظرني بالخارج ..
شخص
ينتظرني بالخارج !! من هذا ؟؟
لم
يقصد أحد منزلى طوال حياتى لا زملاء عمل ولا زملاء دراسة
كنت
أشعر بوجع لا أدرى مكانه ولا سببه ..
قمت
واغتسلت في تباطؤ وبدلت ملابسى وخرجت لأجد عصام يجلس مع والدى فى غرفة الاستقبال
..
تسمرت
مكاني ..
لماذا
جاء ؟؟ وكيف حصل على عنوانى ؟؟
العديد
والعديد من الأسئلة .. كنت متجمدة مكانى .. هل يعقل أنه جاء لخطبتى مثلاً ؟؟
هذا
مستحيل بعد ما رآه بعينه يحدث بينى وبين هشام ..
لمحني
عصام حيث أقف متجمدة فى مكانى من أثر المفاجأة .. مما دفع والدي للنظر حيث أقف
وأشار إلى بالقدوم ..
جلست
وعقلى فى شبه شلل تام ..
بدأت
الكلمات تنساب من فمه فى تردد خجل : هشام ساءت حالته ودخل فى غيبوبة مرة أخرى ..
انتفضت
من مكاني دون وعى وأنا أضع يدى على فمى لأكتم صرخة كادت أن تنفلت منى : كيف ومتى
؟؟
لاحظت
الدهشة على وجه أبى ..
حاولت
تمالك رباطة جأشي وتفسير الأمر لأبى : أنه مريض كنت أتولى رعايته
هز
أبى رأسه متفهماً ..
عصام
: فى الصباح اكتشفوا الأمر وحين سألت عنك أخبروني أنك فى إجازة .. وهاتفك مغلق ..
ولم يكن أمامي حل .. وآسف على إزعاجك لكنك خير من يتولى الأمر ..
ونظر
لى نظرة ذات مغزى فهمتها على الفور ..
ولم
أنتظر ذهبت لغرفتي بدلت ثيابى فى عجلة ..
دلفت
أمى للغرفة وطلبت منى عدم الذهاب .. ويكفى ما حدث ..
كانت
تسترق السمع إذاً ..
أخبرتها
فى توسل والدموع تطفر من عينى : لا أستطيع التخلي عنه .. لقد سقط فى غيبوبة أخرى
ربما بسببى أنا ..
أمى
فى حزم : تمالكي نفسك حتى لا يشعر والدك بشيء .. هناك بالمستشفى مئات الأطباء لا
داعى للذهاب ..
مسحت
الدموع فى سرعة وخرجت لن أنتظر دقيقة واحدة ..
فتحت
باب الشقة وانطلقت تاركة عصام ..
لكنه
لحق بى أسفل البناية وهو ينادينى : أنت مجنونة .. انتظرى معى سيارتى .. انتظرى أرجوك
بعصبية
بالغة : إذا أنا مجنونة فلماذا جئت ما دمت أنا مجنونة ؟
ركبنا
السيارة الفارهة : آسف ولكن والدك لاحظ اندفاعك وأصبحت محرجاً للغاية لولا والدتك
أنقذتنى .. وأنت تعرفين لماذا بحثت عنك عندما حدث الأمر .. هشام تعلق بك على ما
يبدو .. ربما .. ربما ..
تردد
فى نطق الكلمات لكني اعرفها
بغضب
: تقصد أنه ربما وجد سلوانه فى فقد رواء من خلالى لا تخجل أنا أعرف هذا
تعجب
من صراحتى : إذا أنت تحبينه ..
وزفر
زفرة عميقة وكأنه يزيح صخرة جاثمة فوق صدره ..
نظرت
نحوه .. كان الضيق ظاهراً فى ملامحه .. ولم يكن ينتظر إجابتي ... فقط لجأنا إلى
غلاف من الصمت حتى وصلنا ..
لم
أنتظر بمجرد توقف السيارة انطلقت نحو غرفته دون تفكير دون توقف ..
دلفت
لغرفة عشقى وأغلقت بابها خلفى وجلست على مقعدى : ها قد عدت من أجلك ألن تقص لى
أسطورة أدونيس وماذا فعلت من أجله أفروديت .. أشتاق لصوتك وأنت تقصها ..
لم
أتلقى أى إجابة ..
:-
يبدو أنها لا تروق لك .. فلتقص لى رحلتنا إلى تركيا ...
لا
إجابة
بدأ التوتر يسيطر على جسدي ..
جلست
بجانبه فى الفراش .. وأنا فى حيرة ماذا أفعل ..
همست
بأذنه في توسل : لقد عدت .. لقد عدت .. لا تذهب عبثاً وتتركني هنا وحدى ..
أمسكت
بيده وقبلتها وأنا أتوسل له : عد من أجلى .. أرجوك ..
وبدأت
دموعي تنساب فى غزارة :- أتوسل إليك لا أستطيع الحياة بدونك ..
ألقيت
بنفسي فى أحضانه .. وأنا أجهش بالبكاء ..
ثم
شعرت بيده تربت على رأسي ..
هل
أتخيل ؟؟
نظرت
نحوه كان ينظر نحوي وبأنامله يمسح دمعاتي فى رقة قبلت يده وضممتها بكلتا يداى
ووجهى ..
ولا
أستطيع التوقف عن البكاء ولا أعرف السبب
هل
هو الفرح لعودته ؟؟
لا
تتعجبوا كل النساء يبكون عندما يفرحون .. إذا لم تصدقونى فاذهبوا لقاعات الأفراح
وشاهدوا بأنفسكم ..
هل
أنا فرحة لأنه عاد من أجلى ؟؟
وأفقت
من خيالاتى على صوته : لماذا تعذبيني يا رواء ؟؟
عندها
أدركت لماذا آفاق .. وانهمرت دموعي أكثر لكنى هذه المرة كنت أعرف السبب بالتحديد
..
إنها
دموع اليأس ..
دلف
عصام الى الغرفة واتجه نحوه وربت على كتف هشام ..
ونظر
نحوي فى شفقة .. لكنه لم يجرؤ على مواساتي ..
رغم
أننى كنت فى حاجة ماسة للكثير من المواساة ..
تحركت
وجلست على مقعدي وأنا أجفف دموعي وهى تأبى التوقف ..
دلف
إلى الغرفة الدكتور مراد .. يبدو أنه جاء من أجلى لكن عودة المريض من غيبوبته
استوقفته أخذ يحدق به ..
ثم
نظر نحوي : مرحباً دكتورة أسماء ..
كان
يضغط على الحروف حتى تبدو بارزة ..
ألتفت
هشام نحوى .. فتابعت البكاء ..
تحرك
من مكانه يحاول النزول من الفراش ..
أسرع
عصام يحاول معاونته ..
وأنا
غارقة فى دموعى تماماً وكأنى غائبة عن الوعى ..
كأني
لست فى هذه الغرفة ..
لم
أشعر بما يحدث حولي كنت في حالة من الانهيار ..
هرع
الدكتور مراد يصدر تعليماته للممرضات بإعادة المريض إلى وضعه .. وبدأ في فصل
الأجهزة التى لا حاجة لها ..
لكن
هشام تابع الى ما يفعله فى إصرار وعصام والممرضة يحاولون إعادته دون جدوى كان يدفعهم
في عنف محاولاً الوصول حيث أجلس ..
وحدثت
جلبة أفقت على إثرها من نوبة البكاء ودوامة اليأس التي انسحقت فى قاعها ..
قمت
أساعدهم .. استكان بمجرد وجودى إلى جواره ..
ربت
على كتفه وطلبت منه العودة الى وضع الرقاد فأمسك بوجهى بكلتا يديه
فى
سرعة تراجعت للخلف ..
أزحت
يده فى شيء من القسوة .. فلا أضمن ما سيحدث منه ولا منى فى هذه الأثناء وفى وجود
الممرضات ومدير المستشفى ..
وابتعدت
قليلاً وانزويت جانباً حتى يهدأ ..
سألنى
فيما يشبه البكاء إن كنت غاضبة منه ؟؟
هززت
رأسي أن لا وأنا أزم شفتاى بأصابعى ويدي الأخرى مثنية أمام صدرى وكأنها تحتجزني
لتمنعني من الاقتراب منه ..
ففى
داخلي شيء يدفعني أرتمي في أحضانه ..
واستشعر
الدكتور مراد حرج موقفى ودقته .. فأمر الممرضات بالانصراف لعملهم وطلب منى اللحاق
به بعد اتخاذ اللازم للمريض ..
وتعمد
ذكر اسمى بذات الطريقة : دكتورة أسماء تأكدى من الحالة .. وبعدها فأنا أنتظرك
بمكتبى ..
كانت
كلماته ونظراته ذات مغزى ..
غادر
الغرفة .. فطلبت من عصام غلق الباب جيداً ..
هَمَ
أن يخرج من الغرفة ..
استوقفته
متوسلة : إلى أين تذهب ساعدنى أرجوك .. لقد رأيت بعينك لقد أنصرف الجميع ولن أقوى
على التصرف وحدى .. تعالى وساعدنى ..
اقتربت
من هشام لأجده يستوقفني : أنا آسف دكتورة أسماء .. لكننى أريد الخروج فوراً من هنا
!!
انتفضت
روحى وأنا أسمعه ينطق أسمى حتى وإن كان مزيلاً بلقب دكتورة ..
لا
تهم الألقاب .. لا يهم أى شيء جفت الدموع ..
وقفزت
الابتسامة على وجهى ..
هو
يكلمني أنا .. لقد فعلها الدكتور مراد ..
هل
كان هذا ما يرمى إليه ؟؟ من المؤكد أن لا .
هشام
فى توسل : أخرجنى من هنا فوراً يا عصام .. أريد مغادرة هذا المكان ..
أقتربت
منه وربت على كتفه
: أخشى أن تحدث انتكاسة
.. أرى أن تستمر تحت الرعاية هنا هذا أفضل
سألنى
فى إعياء : هل ستكونين معي ..
فى
حيرة حركت رأسى بشكل مائل وأنا أنظر نحوه .. هل يكلمنى أنا .. أم هى .. في
النهاية لا يهم أياً منا ..
اقتربت
منه وهمست : سأبقى معك للأبد ..
ابتسم
فى سعادة .. شعرت وكأن الحياة قد دبت فيه دفعة واحدة .. ولمعت عيناه ببريق لم
ألاحظه من قبل ..
شعرت
بسعادة وأمل ..
كأن
الليل قد انقشع فجأة بظلمته وحل النهار مصطحباً الشمس بدفئها وألقها فانساب نورها
فى أرواحنا يبدد كل ركن مظلم في خبايا الروح ..
ليفتح
كل باب أغلقته الحياة فى وجوهنا .
نظرت
إلى عصام فى سعادة : سأذهب لمدير المستشفى ثم أعود على الفور ..
فى
مكتب الدكتور مراد جلست وكلانا صامت .. لا أعرف كيف أبدأ الكلام .. وهو ينظر لى فى
حزم : ألم أطلب منك الابتعاد وترك الأمر ؟؟؟
وأنا
أنظر للبساط أسفل قدمى فى حياء : نعم فعلت .. ولكن شقيقه أتى إلى منزلى وتوسل أن
آتى معه .. ولم أستطع التخلي عنه .. هذا عملى
واجهنى
بعصبية : هذا المريض تحول إلى مريض نفسى بسببك .. أنه يظنك زوجته .. أرأيت كيف
ينظر لك ويتعامل معك وكيف يلمسك .. ماذا سيكون تبريرك أمام الجميع فى حال تطور هذا
الأمر يجب أن تحافظى على مكانتك وسمعتك .. هل تفهمين أم أنك فقدت قواعد الفهم
واللياقة يا دكتورة ؟؟
أجبته
فى صوت خفيض : أعتقد أنه فهم أننى طبيبته .. فقد أعتذر منى ودعانى باسمى بعد
مغادرتك الغرفة .. وهو يرغب فى مغادرة المستشفى ..
أرخى
دكتور مراد ظهره للخلف فى مقعده وهو يفكر : فليكن .. هل تعتقدى أن حالته الصحية
تسمح بالخروج ؟؟
كنت
فى حيرة : لا أدرى .. أخشى من حدوث انتكاسة .. حالته تحسنت بشكل جيد قبل إجازتي ..
لكن .. لا أعرف .. الأمر مكفول بما تراه .
فى
غضب : يبدو أنك نسيت الطب واكتفيت بالحب والعبث ؟
كانت
الكلمات قاسية أيما قسوة .. لكنها حقيقة .. طفرت دموعى بالرغم عني ..
دكتور
مراد بشفقة : كفى بكاء ... لكنك مثل ابنتى وأخشى عليك من هذا الأمر الذى قد يدمر
حياتك تماماً .. أنا لا أعارض الحب .. لكن هذا الأمر محكوم عليه بالفشل .. أنت
تلقين بنفسك في دوامة لا يعلم عاقبتها إلا الله
غرقت
فى دموعى أكثر .. قدم لى منديلاً وطلب منى الانصراف مباشرة إلى المنزل ومحاولة
نسيان الأمر والالتفات لرسالتي .. وبعدها أفعل ما يحلو لى ..
هززت
رأسى بالموافقة وفى توسل استأذنته أن أمر عليه قبل أن أنصرف ربما سيحسن هذا من
حالته .. وافق فى تبرم وعدم اقتناع تام بالأمر .. لكنه وافق ربما شفقة بى وبحالتي
المزرية .
فى
الغرفة كان يجلس هشام على مقعدى دلفت إلى الغرفة وأنا أرسم ابتسامة كبيرة زائفة
على وجهى .. أظن أنه عرف أنها زائفة .. وعصام يجلس بالمقعد المجاور له ..
جلست
على الفراش فى مواجهته : سيأتى الدكتور مراد ويراجع حالتك بنفسه ويقرر إن كانت
حالتك تسمح بالخروج .
هز
رأسه فى تفهم : أنا آسف على كل ما سببته لك من مشاكل .. عصام شرح لي كل شيء ..
أعتذر منك إن كنت أسأت التصرف معك ..
اتسعت
ابتسامتي ووقفت : سأنصرف الآن و سأتابعك من خلال الهاتف لأعرف ما سيحدث .. هل استطيع
الحصول على رقمك ؟؟
نظر
نحوى بتمعن غريب وكأنه يشاهد شيئاً لا أراه .. ما جعلني أنظر خلفى لأبحث فى الفراغ
خلفى .. لا شيء هو ينظر لي لكن نظرة غريبة ..
تابعت
: هل ستعطيني الرقم ؟؟
عصام
وهو يبتسم : سأعطيك الرقم وأنا أصحبك للمنزل كما أحضرتك حتى لا يقتلني والدك .
هو
ما زال بنفس الحالة يتأملني فى صمت ..
فليكن
اتجهت نحوه ومددت يدى .. ما زال يتأملني وهو يميل برأسه يميناً ويساراً ثم يقترب
بوجهه وهو يضيق حدقتاه كأنما يحاول التأكد من شيء ما يراه ..
شعرت
بالخوف لا أدرى لماذا يتصرف هكذا .. أخيراً أمسك يدى وسلم على فى برود قاسى ..
شعرت
كأنما جليد انسكب داخل أعماقى .. تحركت وأنا أقاوم الدموع فى استبسال .. وصلت
السيارة وانا متيقنة من شيء واحد ..
أنني
ضائعة .
**********
عزلة
فى
المنزل كانت تنتظرنى محاكمة أخرى من نوع ما ..
أبي
وأمي جالسين بالصالة .. كانا بانتظاري ..
عرفت
فور رؤيتى لوجه والدى الغاضب أن أمى قد أخبرته ..
وربما
بكل شيء ..
كانت
الكلمات أشد قسوة ..
لم
أتعرض فى حياتى لكل هذا الكم من القسوة فى يوم واحد ومن أشخاص عدة ومقربين منى ...
بل هم كل حياتى ..
كانت
حياتى هادئة تسير بلطف وحسب قواعد تربيت عليها منذ نعومة أظافري ..
لم
أرتبط ككل الفتيات بزملاء الدراسة ..
لم
أرتبط ككل الفتيات بزملاء العمل ..
لم
أرتبط فى حياتى سوى بنفسى وأسرتى ..
كان
التحول الذي حدث يدهش الجميع ..
يدهشني
أنا ذاتى .. أشعر بأننى لست أنا حقيقة ..
لست
أسماء حشرة الكتب العلمية والنشرات الطبية والمراجع .. لست أسماء الكائن الآلى ..
أتحرك كالروبوت أتكلم كالروبوت ..
كائن
بقلب فقط ينبض ليضخ الدم ويقوم بوظائفه الحيوية المجردة من أى إرادة ..
لم
يكن يحب أو يكره أن جاز لنا القول بأنه المسؤول عن هذه الوظائف ..
كان
ذات الكلام يتردد .. علاقة فاشلة .. أنت تحطمين نفسك ..
تهديد
ووعيد من والدي ..
دموعى
المنحدرة فى صمت دون وعي
لكن
فجأة تبدد كل هذا .. جفت الدموع .. حملتنى أقدامى إلى غرفتى غير عابئة بشيء .. أبى
يثور ويرعد .. أمى تحاول تخفيف حدة الموقف ..
أنا
فى حالة من الانفصال عن كل ما حولى ..
دلفت
الى الغرفة وكل المشاعر البغيضة فى الدنيا تسكن روحى فى هذه اللحظة.. ورقدت فى
سريرى .. ونمت ..
نمت
مثقلة بجراح ..
نمت
مثقلة باليأس والحزن ..
نمت
مثقلة بالتوبيخ الذي لم أتعرض له فى حياتى ..
كان
النوم هو الملاذ الوحيد الآمن لى .. فليرتاح هذا العقل فى غيبوبته الصغيرة قليلاً
وليترك كل الألم والحزن والضياع ...
فقط
الظلام الكثيف اللذيذ .. نعم فالنوم لذة من ملذات الحياة .. هذا يعرفه فقط من هم
أمثالى من أصحاب الهالات السوداء تحت الجفون ..
يعرفه
من يملكون العقول التي تعمل كآلة من أفكار ومعلومات وتشخيص وحلول .. يعرفون جيداً
لذة أطفاء هذا المحرك المسمى بالعقل والذهاب في رحلة من السكون ..
يعرف
لذة النوم المرضى ومن يعانون من آلام الجسد ..
هذا
المسكن الطبيعي الذي أوجده لنا الله عز وجل نعمة من النعم الربانية التى نغفل عنها
ولا ندركها ..
نعمة
يعرفها من يعانون من الأرق .. والكوابيس المزعجة المتتابعة .. والأحلام التى يهوى
الجسد فيها من ارتفاع شاهق منتظراً الارتطام الشنيع ..
فقد
كان هذا هو حلمي لهذه الليلة .. السقوط !!!
يبدو
أن عقلى الباطن سيطر عليه الكلام المتكرر عن السقوط والضياع والفشل ليدخله فى صورة
من صور التعبير عن مكنوناته ..
كنت
أهوى فى هلع بنفس وضع النوم جسدى مسجى بشكل أفقى وجهى ينظر باتجاه الهاوية ويدى
تبحث عن أى شيء تتمسك به لكن لم يكن هناك غير الظلام ..
صوتى
مختنق وكأن الاندفاع الشديد للهواء دفع الصراخ بصورة عكسية ليرتد الى داخلى ...
كنت
أبكى فى عجز وقلبى يرتجف وأنا أراقب الظلام الشنيع الذى اتجه نحوه كان كبئر بلا
قاع ...
جسدى
يرتجف منتظراً هول ما سيحدث به عند الارتطام بالأرض وتهشمه فى قوة وتناثره في كل
مكان كانت الفكرة تجول بعقلى فى وضوح ..
فجأة
توقف كل شيء ..
جسدى
توقف دفعة واحدة ثمة ما أمسك به بقوة دفعة واحدة ظللت معلقة فى الفراغ لكننى لا
أهوى ..
كل
شيء هادئ ..
قلبى
كف عن الوجيف .. جسدي يعتدل شيء ما يتحكم فيه ويقوم بتوجيهه كما يحلو له كدمية ..
جسدي ينتصب واقفاً ..
قدمى
تلامس أرضية مخملية ناعمة وكثيفة تشعرنى بالراحة وكأنها بساط من نوع ما ..
كان
شخص ما متكور على نفسه يجلس وقدماه مثنيتان وظهره مقوس من أثر رأسه المائل على
يديه المنعقدين تمسكان ركبتيه كان يبدو مألوفاً لكننى لا أرى وجهه ..
فجأة
ظهرت هى من العدم .. رواء ..
أجفلت
من ظهورها المفاجئ ..
أشارت
نحو الجالس وسألتنى : ألا تعرفينه ؟؟ إنه هشام ..
اندفعت
نحوه وجثوت على ركبتى إلى جواره وداعبت أناملى شعره فى رفق ..
رفع
رأسه نحوى وهو شارد وكأنه لا يعرفني ثم نظر نحوها وكأنه لا يعرفها ..
سألته:
ما بالك لقد تركتك بحالة جيدة ماذا حدث لك ؟؟
لم
يجبني .. نظرت نحوها أسألها : ما الذي يحدث له ؟؟
رواء
بضيق : أنت السبب كان يجب أن تظلى معه .. لكنك تخليت عنه .
بيأس
: أنا لم أتخلى عنه .. لكن الظروف أقوى من طاقتي واحتمالي ..
هى
بعصبية : لقد أنقذتك هذه المرة .. لكن لن أفعلها مجدداً .. لقد اتخذت قرارك بمحض
إرادتك .. تذكرى إنه كان اختيارك ..
كنت
فى حيرة من مغزى الكلمات .. فجأة أمسكت بيده تساعده على النهوض وبمجرد وقوفه
احتضنته وطارت لأعلى فى سرعة وتركتنى وحدى فى القاع ..
كنت
أنادي عليه فى يأس ..
أنادي
عليها فى توسل ..
اعتذرت
ودموعى تملأ كلماتى وصراخى : لست من هذا النوع المقاتل الذى يعرف ما يريد ويحيل
الدنيا ويقيمها ويقعدها من أجل رغباته .. من أجل تحقيق ما يريد .. لا تأخذيه مني
..
وفى
توسل : أرجوكم لا تتركونى وحدى هنا ..
ومن
جديد هوت الأرض من تحت أقدامي وهويت فى ظلام سحيق
شهقت
بقوة وصرخت بكل طاقتى ليخرج صوتى ملتاعاً صرخت وصرخت ..
وانتفضت
من نومي فزعة على صوت طرقات الباب العالية .. كان جسدي يرتجف بشدة ويتفصد عرقاً ..
انفتح
الباب بعنف وهرع أبى وأمى نحوى وهما يحتضنانى .. وأبى يرتل القرآن بصوته الرخيم ..
حتى
هدأت نفسي ..
ونمت مرة أخرى لكن هذه المرة نامت أمى إلى جوارى ..
ما
أصعب أن تعيش وكأنك ميت ..
أعتقد
أن الموت فى هذه الحالة رحمة نفتقدها بشدة .. كنت أشعر أنني كالموتى الأحياء .. لا
أشعر بشيء فقط ألم فى صدرى يعصرني .. انقطعت عن الدنيا .. قبعت فى غرفتى لأيام
وأيام لا أدرى ما عددها ..
ما
جدوى الأيام .. وما جدوى إحصاؤها ..
فى
مكابرة أحاول إنهاء رسالة الدكتوراة لكننى كنت عازفة عن الحياة .. الآلام في كل
جزء من جسدى ولا أعرف سببها
المراجع
والكتب والأوراق مبعثرة فى غرفتى فى فوضوية
أمى
تحضر الطعام وأحياناً تدسه فى فمى عنوة كما كانت تفعل وأنا صغيرة ..
كانت
الستائر مغلقة .. كنت لا أريد أن أرى ضوء النهار ولا ظلمة الليل ولا وجوه البشر
المتناثرة فى الشارع ..
كنت
أتسلل للحمام فى خلسة حتى لا يشعر أحد بى ..
الأحلام
لم تعد موجودة فقط النوم الطويل المرهق ..
نعم
المرهق .. النوم هو طريق الجرحى واليائسين .. الملاذ الآمن من فوضى الحياة وشقائها
.. من الأفكار .. الإفراط فى أى شيء يؤدى بصاحبه للتطرف وعدم الاعتدال ..
هل
الصواب فى النسيان ؟؟
وماذا
يفعل من لا يملكون رفاهية النسيان ؟؟
ماذا
يفعل من لا يملكون القدرة على النسيان ؟؟
العقل
مثل السرداب يحتوى على آلاف الأبواب المغلقة ..
هناك
من يملكون مفاتيح هذه الأبواب ويتحكمون بفتحها وإغلاقها ويعرفون طريقهم جيداً فى
سراديب عقولهم ..
ولم
أكن منهم أبداً ..
حتى
فى دراستى كنت أعتمد على التحليل والبحث بعناية والتكرار حد الملل كنت أعانى حتى
أصل لغايتي ..
تخلصت
من هاتفى نهائياً ..
لماذا
فعلت هذا؟؟
لأننى
فجأة فقدت الرغبة فى كل شيء….
وآنست
عزلتى لأسابيع طويلة مريرة .
**************
الضوء الراقص
دلفت
أمى إلى الغرفة وأنا جالسة على مكتبي وسط أوراقي والمراجع العلمية المفتوحة على
مصرعيها .. جلست على طرف الفراش فى تؤدة وطلبت منى تبديل الثياب والاعتناء بمظهرى
فهناك من ينتظرني بالخارج ..
نظرت
نحوها بملل : لا أريد رؤية أحد .
أمى
تبتسم فى وداعة : ألا تريدين معرفة من الذى ينتظر .. إنه هو ..
نظرت
نحوها فى بلاهة : هو من ؟؟
بنفاذ
صبر : هشام ومعه أخوه الذى أتى سابقاً .
تضاربت
المشاعر فى نفسى .. فرح .. وحزن .. سعادة .. ويأس .. كان داخلى معترك من المشاعر
المتزاحمة .. ولكنى كنت قد اتخذت قرارى بالهروب منه ومن عشقى .. ومن ضياعى المحتم
عقلى
حلل الأمر لمئات المرات وكانت النتيجة واحدة .. الفشل الذريع لهذه العلاقة ...
وأنا لا أستطيع تحمل الفشل الذى قد يؤدى إلى دمارى .. أنا أنسانة عاقلة متزنة ولن
أفعل بنفسى هذا
كان
عقلى يدور مصدراً أزيز صدئ لا ينم إلا عن عناده الأحمق
نظرت
نحوها فى جمود : لن أقابل أحد ..
صدمت
أمى من قرارى .. ومن ملامح وجهى الصارمة .
كانت
مندهشة : يجب أن تخرجى والدك ينتظرك .. هو يجلس معهم .. ألا تريدين معرفة السبب ؟؟
أخبرتها
فى لا مبالاة : لا أريد معرفة شيء .. ولن اخرج ..
اتجهت
نحوى وهى تربت على ظهرى : هل أنتى مريضة أشعر أنك لست على ما يرام وحرارتك مرتفعة
؟؟
:-
وأيضاً ماذا سأقول لوالدك ولهم ؟؟
:-
هيا تعالى لأساعدك فى اختيار ثوب مناسب لترتديه .
فى
عصبية : أنا لن أرتدي شيئاً ولن أقابل أحد أتركيني وشأني من فضلك .
كانت
أمى مصدومة فهى المرة الأولى التى أكلمها فيها بهذه الطريقة ويعلو صوتى وأنا
أكلمها ..
خرجت
من الغرفة .. واندفعت أغلق الباب خلفها بقوة بالمزلاج .. وارتميت على سريري أبكي
فى مرارة وألم يحرق أحشائي ..
بعد
لحظات الباب يطرق وأبى يطلب منى فتحه ..
لم
أنطق فلا أقوى على معارضته .. زادت الطرقات قوة ..
اقتربت
من الباب وتوسلت لوالدى وصوتى مثقل بالدموع والبكاء أن يتركني وشأنى فلن أقابل أحد
..
أنصرف
والدى واللوعة والخوف على حالتى تملأ قلبه لكنه يخفى كل هذا تحت قناع من صرامته
المعتادة ..
وعدت
الى فراشى ونار مستعرة تأكل أحشائي وتمزقها .. ألم شنيع في جانبي الأيمن .. أخذت
أبحث فى الأدراج بجوارى عن أى مسكنات والتي صرت أتعاطاها بشكل مكثف في الفترة
الأخيرة بسبب وبدون سبب .. وكأنها ستسكن ألم الشوق .. وكأنها ستسكن ألم الفقد ..
لم يخترعوا بعد ما يسكن هذه الآلام ..
ولتعاستى لم أجد مسكنات والألم يتزايد ..
هذه
ليست آلام القولون المعروفة لا ..
أنا
أعرف هذه الأعراض جيداً ... إنها آلام الزائدة .. مارست عملى كطبيبة ضغطت فى موضع
الألم .. إنها هى ..
فليكن
سأتحملها ربما تهدأ أو تنفجر وتقضي على حياتى وأرتاح فأنا لا أقوى على الانتحار
...
يبدو
أن السماء أرسلت لى رحمتها وهديتها ..
الطرقات
على الباب مرة أخرى ..
كانت
أمي وشخص ما الى جوارها ينادى : دكتورة أسماء ..
هو
هشام ..أنا أعرف صوته الذى أصبح له بصمة داخل روحى
لكنى
لن أفتح هذا الباب أبداً .. بل لا يقوى جسدى للوصول للباب
الطرقات
تزداد لا أعرف ما يدور بالخارج كان يتوسل أن أفتح لهم الباب ..
والجميع
يتحدث خارج الغرفة .. لكننى لم اقوى على الرد لم اقوى على الحركة .. كان الألم لا
يحتمل أنفاسي متقطعة .. الغرفة تدور وتدورفى سرعة .الهواء لا يدخل صدرى .. كنت أفقد
الوعي ..
كان يتلاشى رويداً رويداً وساد الصمت والظلام ..
رواء تربت على رأسى فى شفقة أفقت من إغماءتى على دموعها تنساب وهى
تسألنى : لماذا تفعلين هذا ؟؟ لقد أحضرته حتى بابك
نظرت
لها وأنا لا أقوى على الكلام والأضواء العلوية للمصابيح تأتى وتذهب فى تتابع يسبب
الدوار أكثر إنها أضواء ممرات المستشفى .. وهى تسير بجوار النقالة التي تحمل جسدى
وتمسك بيدى بقوة وتقبلها وهى تكلمنى : لا تخشى شيئاً سأظل معك
شعرت
بالأطمئنان وأغلقت عينى وذهبت فى ثبات عميق
إنه المخدر أنا بالتأكيد فى غرفة العمليات ..
كل
الأشخاص التى أعرفها في حياتي تمر حولي في سرعة يدورون في دائرة شاسعة حول فراشى
وهم ينظرون لى فى قلق
هشام
يجلس بجانبى يداعب خصلات شعرى فى رقة ..
هل
أتخيل ؟؟
لا
أدرى
فتحت
عيني أتفحص ما حولى ..
ماذا
حدث ؟؟ كنت فى المستشفى أنا أعرف هذه الغرفة ..
هرعت
أمى نحوى والدموع تطفر من عينيها : الحمد لله والشكر لله .. حمداً لله على سلامتك
يا حبيبتى .
أسألها
فى إعياء : ماذا حدث ؟؟ أين أنا ؟؟
أمى
: خير لعله خير .. الزائدة كانت وشك الانفجار .. لكننا أدركناك فى اللحظات الأخيرة
.. الحمد لله والشكر لله .. لم أكن لأتحمل أن يحدث لك مكروه .
دلف
للغرفة فى هذه اللحظة أبى والدكتور مراد وأخى أحمد ..
متى
عاد من السفر؟ ..
هو
يعمل بأحد شركات البترول فى البحر الأحمر .. أقبل نحوي وضمنى برفق وقبل جبينى :
اشتقت لك يا عزيزتى .. هكذا تقررين تفجير نفسك فى غير وجودى ..
ابتسمت
أبتسامة هزيلة على دعابته ..
الدكتور
مراد وهو يبتسم : حمداً لله على سلامتك .. يبدو أنك قررت إنهاء رسالة الدكتوراة
وإنهاء حياتك معها أيضاً .. لن أتركك قبل مناقشة رسالتك مهما حاولت يا دكتورة ..
ابتسمت
له وهو يوجه صباح أحدى حكيمات القسم أن تحسن رعايتي وهى تنظر نحوي وتربت على كتفى
: لا توصيني عليها من سيكون أعز من الدكتورة أسماء .. إنها من أحسن الطبيبات
وأكثرهم تواضعاً .
كان
الجو اللطيف من حولى والاهتمام الزائد يشعرني بالراحة ..
فرغت
الغرفة من الموجودين عدا أمى ظلت الى جوارى ..
كانت
تجلس على طرف الفراش تقرأ في مصحفها وهى تضع أصبعها على مواضع الكلمات وأنا أستعد
للذهاب فى غفوة تعيده إلى جانبى مرة أخرى ..
الطرقات
على باب الغرفة ..
الباب
يفتح فى بطء .. ثم يظهر الطارق ..
إنه
هشام وبيده باقة من الورود البيضاء والحمراء الجميلة ..
كان
يبرق بشعره الأسود الفاحم المصفف ولحيته المنمقة الخفيفة وعينيه الواسعتين وأنفه
المدبب .. كان بالغ الوسامة ..
شعرت
بألم فى موضع الجراحة اكتشفت أنه بسبب حركتى اللاشعورية السريعة فى محاولة منى
للجلوس ..
أمسكت
موضع الجراحة وأنا أتأوه فى ألم ..
لكن
هناك ألم أخر من نوع ما فى صدرى .. زممت شفتي فى محاولة لكتم صرخة الألم الخفيفة
..
انتفضت
أمي وهي تساعدنى لأعود لوضع الرقود كما كنت وأنا أشير برأسى .. كنت أرغب في الجلوس
..
هرع
باتجاهى بعطره الساحر وحمل وسادة صغيرة ووضعها أسفل ظهرى وأمسك بيدى ليعاوننى على
الاسترخاء .. كنت أرتعش من مجرد لمسة يده .. كنت حقاً عاشقة متيمة ... بمجرد رؤيته
نسيت كل قرارات الهروب واحتمالات الفشل نسيت كل شيء ..
أمي
أمسكت يدى تعاونني ففهم وترك يدى وإن كنت أنا التى لا ترغب فى ترك يده ..
جلس
في المقعد المجاور للفراش : حمداً لله على سلامتك ..
فى
خجل : شكراً على الزيارة ..
أبتسم : هذا جزء ضئيل مما قدمتيه لى حين كنت بنفس الفراش
هل
أنا بالغرفة رقم سبعة ؟؟
عجيبة
ترتيبات القدر ..
وهو
يجلس بنفس مقعدى حيث كنت أجلس .. وأنا المريضة الآن سألته : هل هى نفس الغرفة .
ابتسم
وقد فهم : نعم هى نفس الغرفة ونفس المقعد لقد طلبت منهم ذلك .
ارتعش
قلبى بين ضلوعى فرحاً وسعادة ..
ليست
ترتيبات القدر إذاً .. إنها ترتيباته هو ..
لكن
مهلاً : طلبت منهم ذلك .. كيف ؟؟
اتسعت
ابتسامته : بعد أن حطمنا باب غرفتك ووجدناك في حالة إغماء في الفراش حاولنا إنعاشك
وإعادة الوعي دون طائل فحملتك وجئنا الى المستشفى فوراً .. وتمت الجراحة وها أنت
ذا ... بخير وكما الورود بل أجمل ..
نظرت
نحوه أمى بجانب عينها وتنحنحت ..
حملني
... لماذا لم أكن مستيقظة وبوعي الكامل حتى أستمتع بهذه اللحظة الرومانسية التى
يحمل فيها البطل حبيبته بين ذراعيه .. ويصف جمالى بجمال الورود .. يا ويحى .. لقد
ذبت ولهاً وابتسمت فى حياء وأنا أشكره ..
كانت
أمي ترمقني بعينيها وتبدو عليها علامات الضيق والتبرم فشكرته هي أيضاً ربما
لتشعرنى أنها ما زالت موجودة وأن أتمالك نفسي وأن أراعى تصرفاتى .
هو
فى أدب : لا شكر على واجب يا أسماء فعلت معى الكثير وقدمت لي الكثير ..
لا
أصدق عقلى أسماء .. أنا أسماء .. بلا دكتورة ولا ألقاب ولا حواجز ..
أود
لو كنت بصحة جيدة فأمسك يده حينها ونسبح فى أرجاء الغرفة فى رقصة رومانسية طويلة
من التى يرقصها قلبى الآن بين ضلوعى فى فرح ..
كنت
هائمة تماماً .. لولا نحنحة من أمى .. ثم نكزة خفيفة ثم نكزة أقسى .. فنظرت نحوها
..
كانت
تضغط على أسنانها بقوة وتهز رأسها فى عصبية ..
لولا
أننى مريضة لكانت لطمتنى عدداً لا بأس به من اللطمات ..
لكننى
غارقة فى عشقى وولهى وهذا لا يروق لها بتاتاً
وأنا
لا أستطيع المقاومة أكثر ..
على
وجهى ابتسامة عريضة بلهاء .. ووجهى يكاد ينفجر من حمرة الخجل .. والدماء المتدفقة
إلى رأسى من فرط السعادة ومن فرط الكبت ..
وقف
وهو يستأذن فى الانصراف ومد يده ليسلم فاستقمت جالسة وشعرت بالألم الرهيب فأمسكت
موضع الألم بيدى فأعاد يده الى جواره وهو يبتسم : لا عليك فلتبقى مرتاحة .. أراك
غداً إن شاء الله .. ألف سلامة عليك ..
ونظر
لوالدتى وأردف : هل تأمرين بشيء ما يا أمى ؟؟
أمى
بتنهيدة : شكراً بارك الله فيك يا أبنى .
ما
إن أغلق الباب حتى انطلقت أمى فى وصلة من التوبيخ ..
لكننى
كنت شاردة سعيدة ولم أكن أريد لشيء أن يعكر صفوى وسعادتى فى هذه اللحظة ..
عدت
إلى الرقاد وادعيت الإرهاق والتعب والحاجة الى النوم ..
أمى
بتهكم : طبعاً أرهقت من قفزك كل دقيقة كما الجعرانة .. كنت أعتقد أنك رزينة ومتزنة
ولست بهذه الحماقة والتفاهة .. ما هذه التصرفات الطفولية ؟؟
وفى
نفسى كنت طفلة فرحة بطفولتها . كنت ناقمة على الرزانة والأتزان وعلى كل شيئ عدا أن
أكون معه ..
أغمضت
عيني ونمت ..
وذهبت
فى حلم رومانسى راقص معه وحدنا فى أرجاء الغرفة رقم سبعة .. غرفة عشقى الوحيد ..
غرفة أحلامى التى تحولت فى حلمى هذا الى مسرح كبير متسع لنا فقط أنا وهشام
لكن
بكل تفاصيل الغرفة ..
ظللت
قابعة في أحضانه وهو يدور بى في الغرفة وثوبى الأبيض يرفرف من حولى .. كنت مسترخية
في أحضانه في استسلام
ياله من حلم ممتع .. ملأ قلبى سعادة وفرحة تكفيه لباقى العمر
فى
اليوم التالى كنا نستعد للخروج ومغادرة المستشفى ..
أبى
.. أمى .. أحمد أخى ثم دلف هشام الى الغرفة ..
وأنا
أقف شبه منحنية من تأثير الجراحة ..
كان
أحمد يمسك بيدى ويحيطنى من ظهرى بذراعه ..
شعرت
بالارتباك فور رؤيته يدلف للغرفة ..
سلم
على والدى الذى عرفه على أحمد أخى وعرف أحمد به : الأستاذ هشام ..
بدأ
دبيب الانفعال فور رؤيته يسرى فى جسدى ولحسن الحظ ظن أحمد أنه من تأثير الجراحة ..
كان
هشام يدعو والدي أن يقوم باصطحابنا في سيارته شكره والدى : معنا سيارة أحمد ..
بارك الله فيك
شعرت
أن أخى يعرف بالأمر فلم يسأل عنه حتى
ونحن
فى طريقنا الى المنزل كان الصمت يخيم على الجميع وهو ما يشعرني بعدم الراحة ..
ليكن ..
وصلنا
المنزل دلفت الى غرفتي بدلت ملابسى ونمت لا أعرف لكم من الوقت .. لكننى عندما
استيقظت كان الجميع ينتظرنى أحضرت أمى الطعام تناولته وأنا في سريرى والجميع جالسين
حولى بالغرفة ينتظرون إنتهائى بفارغ صبر فلا أحاديث جانبية الجميع يحملق في وجهى
وأحمد يبتسم بخبثه المعهود .. وعلى الفور بادرني أبى : هشام عندما جاء طلب خطبتك
فما رأيك ؟؟
كان
داخلي براكين تنفجر بالحمم الحمراء كما كرات الدم المندفعة الى قلبى فى سعادة ..
لكنى لا أستطيع أن أظهر شيء من هذا ..
ابتسمت
ابتسامة خفيفة ولاحظت أحمد يرمقني بنظرة جانبية متفحصة .. وفى تصنع للأدب والحياء
: ما ترونه انتم .. اعرف رأيكم سمعته مسبقاً .. ولست فى حالة تسمح لى باتخاذ قرار
.. فليكن ما تريد يا أبى .. أنا راضية
أحمد
بخبث : يبدو أنك موافقة .. وأنا أؤيد موقفك ..
أبى بعصبية : لا تخلط الدعابات بالأمور الجدية .
أحمد بجدية : لكن هذا رأيى حقيقة وخاصة بعد ما رأيته .. موضوع موت
زوجته وحزنه عليها أراه شيء إيجابي وليس سلبي كما ترونه . هذه وجهة نظرى بكل بساطة
.. كما أن مستواه المادى سيوفر لأسماء الكثير ويخفف عنها من الأعباء الكثير ..
أمى
: هو من الناحية المادية فوق الممتاز فهو ثرى لقد قال أنها ستسكن في فيللا .. لكن ما نخشاه با أحمد عدم سعادة أختك . وحدوث
ما لا يحمد عقباه ..
وبتهور
منى بعد أن شجعتنى كلمات أحمد : سأكون سعيدة يا أمى لا أرى ما يمنع سعادتى . لا
تخشى شيئاً .. لا شئ سيحدث غير الخير إن شاء الله ..
نظر
لى والدى طويلاً .. وانحبست أنفاسى ولذت بالصمت كما الجميع .. كنت أنتظر الفرمان
كما الجميع ..
أبى
في صرامة : إذا حسم الأمر .. هذا قرارك وستتحملين عواقبه وحدك .. لكن لن يتم شيء
قبل أن تنهى رسالة الدكتوراة .. لست مستعد أن أراك تتخلين عن هدفك .. الزواج له
أعبائه والتزاماته وأخشى أن تنشغلي وسط كل هذا ولا تستطيعى إكمال ما بدأته .. وفى
النهاية ستتزوجين طال الأمر أو قصر .. المهم عليك أن تستخيرى الله وكلنا سيفعل هذا
وأنت يا أحمد عليك السؤال عنه وعن أسرته وكل المعلومات .. ستكون هذه مهمتك ..
اتفقنا ..
قمت
بتثاقل وأنا أمسك بموضع جرحى وقبلت والدى واحتضنته .. وضمنى بقوة وهو يربت على
ظهري في حنان : فليسعدك الله يا ابنتي ..
وكأنه اللقاء الأول
عام
كامل من المعانة والتعب والأنكباب على الكتب والمراجع وقسوة المعاملة .. والأوامر
الصارمة ..
:-
لا تدعى شيئ يشغلك عن هدفك ..
كلما
ألتقيت والدى كانت هذه الكلمات المقتضبة هي الخطة التي يجب أن أنفذها مهما كلفنى
الأمر ..
هذا
طريق سعادتى الوحيد . ولا بد أن أصل منتهاه
هشام
كان يزورنا نهاية كل أسبوع لمدة نصف ساعة فقط وفق تعليمات والدى .. وفي حضرة
الجميع .. كنت أشعر بالحصار .. كنت أشعر بالشوق له ..
كنت أشعر بالشوق لغرفة رقم سبعة ومقعدى القابع بجوار فراشه أراقبه
وهو يقص لى قصة عشقه .. اشتقت لهيامى في وجهه وهو نائم .. أشتقت للمساته التي تقلب
كيانى كله رأساً على عقب
فقط
لمرات قليلة زارنى هشام في المستشفى والدكتور مراد قام بالواجب كما أوصاه والدى .
كان يقابله ويأخذنا لغرفته ونجلس نختلس النظرات حتى يمل هشام وينصرف .. حتى
مكالمات الهاتف كانت بحساب ..
وأخيراً
أقف على منصة المناقشة في القاعة الشاسعة أتحدث فى إسهاب عن موضوع رسالتى ولفيف من
أعضاء لجنة المناقشة من بينهم الدكتور مراد الذى ساعدنى كثيراً على إنهاء رسالتى
فى وقت قياسى .. وهم يوجهون الأسئلة ويناقشون تفاصيل المراجع التي استندت عليها فى
موضوع الرسالة .. وأنا أجيب في ثقة واسترسل في الشرح بطلاقة ..
ثم
وأخيراً أعلنت اللجنة منحى درجة الدكتوراه بامتياز ..
وضجت
القاعة بالتصفيق ..
كان
أبى وأمى وأحمد وهشام وعصام ووالدهما جلوس فى الصف الأول فى القاعة .. وزملائى
يشغلون القاعة
انسابت
دمعات على وجنتى والدى ووالدتى والسعادة تكاد تقفز من وجوههم وهم يكادون يدموا
أيديهم من التصفيق والحماسة والفخر وعلامات الفرح تكاد تقطر من وجوههم مع الدموع .
توجهت
إلى لجنة المناقشة و شكرتهم .. وعلى وجه الخصوص الدكتور مراد .. نزلت الدرجات
مسرعة وألقيت بنفسي في أحضان أمي وأبى وأنا أكاد أطير فرحاً .. وقبلت الدموع على
وجنتيها ..
احمد
يحتضنني بقوه ويهمس فى أذنى : هل أقول مبروك يا دكتورة .. أم مبروك يا عروسة ؟؟
ابتسمت
فى حياء ونظرت نحو هشام ثم توجهت نحوه سلمت على والده : مبروك يا دكتورة ..
وقريباً جداً نقول مبروك يا عروسة ..
شكرته
فى ود : الله يبارك فيك يا عمى ..
عصام
بفرح : مبروك يا دكتورة أسماء .
شكرته
: الله يبارك فيك يا باشمهندس..
وأخيراً
سكنت يدى بين يداه وهو يبتسم لى فى رقة : مبروك يا أسماء .. لقد انتظرت هذه اللحظة
بفارغ الصبر ..
كان
وجهي يحمر خجلاً ..
أود
لو أقفز الى أحضانه وأقبله لكن هذا من المستحيل حيائي يمنعني والنظرات المترقبة حولى
فأنا نجمة هذا الحفل ..
وفى
شبه الهمس : ليس أكثر منى ..
تأبط
ذراعى وطلب من الجميع اللحاق بنا لأنه أعد مفاجأة صغيرة
وأمام
باب الكلية كانت تقف سيارة جديدة حمراء وعلى مقدمتها باقة من الزهور البيضاء
والشرائط الزرقاء وبطاقة على زجاجها الأمامى مكتوب عليها .. مع حبي للأبد ..
شعرت
أن أنفاسى لا تكفى انفعالي فى هذه اللحظة وهو يقدم لى مفتاح السيارة ويضعها في يدى
ويقبلها ..
هل
أنا أحلم ؟؟..
كنت
أشعر وكأننى سندريلا وأميرها يخطف أنفاسها بحبه ..
التف
الجميع حولى يهنئني .. وأنا لا أجد الكلمات ..
كنت
منبهرة سعيدة .. أشعر أننى فى حلم ..
ثم
تذكرت وفى عجلة وبطفولة : أنا لا أعرف قيادة السيارات ..
أنطلق
الجميع فى الضحك على البراءة والطفولية والعفوية التي نطقت بها الكلمات
هشام
بحماس : سأعلمك .. لا تخشى شيئاً سأعلمك كل شيء ..
ثم
أشار نحو شخص ما وطلب منه اصطحابي وأسرتى بالسيارة الجديدة حتى المنزل
قفزت
فى سعادة وأنا أصفق بيدى كالأطفال : لا ستأتى أنت معى
وقفزت
في المقعد الأمامي الذى بجوار السائق
ودار
هو حول السيارة وجلس في مقعد السائق بعد أن ناول السائق مفتاح سيارته وطلب منه أن
يتبعنا بسيارته ..
اقترب
منى أحمد وأخبرنى أنه سيصحب أمى وأبى فى سيارته وربت على وجهى ثم نظر نحو هشام
بابتسامة : لتحتفلا بالمناسبة لكن لا تتأخرا .. وأشار فى خفية نحو أبى .. وإلا
سيقتلكما ..
وضحك
ثلاثتنا فنحن واثقون من أنها دعابة لكنها فى ذات الوقت حقيقة ..
وانطلقنا
بالسيارة وللمرة الأولى نكون وحدنا تماماً ..
كنت
فى غاية السعادة ..
ظللت
أثرثر وهو يبتسم ويلقي النكات ..
وشعرت
أنها المرة الأولى التى نتكلم فيها كعاشقين سعيدين ..
نتكلم
عن السعادة والحياة والبهجة والأطفال ..
كنت
أثرثر كالمجنونة وهو يصغى ويبتسم ..
كنت
كطفلة وعدوها بنزهة .. والآن جاء وقت النزهة فأنطلقت
وصلنا
منزلى ترك السيارة الجديدة وبدلت ملابسى سريعاً وانطلقنا بسيارته إلى أحد البواخر النيلية
وجلسنا لتناول الطعام
جاء
النادل لخدمتنا ..
نظر
هشام نحوى : ماذا ستأكلين يا رواء
صدمت
نظرت نحوه وقلت وأنا أضغط على الحروف : أسماء يا هشام .. أسماء ..
لكننى
شعرت أنه لم يلاحظ .. ولم يسمع أيضاً .. فقط النادل ابتسم
فليكن
لن أفسد أول لقاء لنا لا يهم فهو الاسم الذى أعتاد ترديده لسنوات وسنوات ..
كان
يحدق بقائمة الطعام منتظراً ما أطلبه ..
فقلت
فى دلال : سنأكل ما تطلبه أنت ؟؟
هشام
بمرح : أخيراً تخليت عن تسلطك وستتركيني أختار الطعام لنا .. يالسعادتى ..
كنت
لا أفهم .. بسذاجة : تسلطى .. أنا لم ..
وفجأة
أضاءت الفكرة في عقلي أنه يظنني رواء ..
لكن
لا يهم كنت مستعدة لهذا من البداية ..
أن
يظل يتذكرها ويرانى هى ..
لكن ليس هذا اليوم أرجوك
تابعت
فى رقة : فلتختر أنت يا حبيبى ..
ضحك
: أخيراً ما رأيك أن نتناول أسماك .. لديهم هنا طبق من قاطعته : لكننى لا أحب الأسماك .. فلتختر شيئاً
آخر ...
بدهشة
واستغراب : لا تحبين الأسماك منذ متى ؟؟ لقد كدت أظنك قطة من حبك للسمك !!
تداركت
الموقف : فقط من باب التغيير أختر شيئاً تحبه أنت .. اتفقنا .
فى
سعادة طفولية : و ستأكلين ما أختاره .. حتى لو كان لحم ضأن مشوي ؟؟
فهمت
من كلامه أنه يحبه وهى لا تأكله وبثقة : نعم سآكل ما تأكله مهما كان ؟؟ حتى لو كان
فيلاً بزلومة ..
أخذ
يقهقه : ليس إلى هذه الدرجة ..
وفى
سعادة طلب لنا الطعام ..
وظللنا
نثرثر في سعادة ..
وبعض
من رواء على بعض من أسماء حتى أوشكت أن أنسى أسمى فعلياً ..
إذاً
يقع على عاتقي منذ الآن تحمل هذا حتى ينسى كل شيء تدريجياً ..
أنا
طبيبة لن أحتار فى الأمر كل ما على التحلى بالصبر فقط
تناولنا
الغداء وعدنا للمنزل ودعني وانصرف وهو سعيد وأنا .. لا أعرف كنت سعيدة ولكن ..
سعادتى
منقوصة بشكل ما ..
دلفت
الى المنزل كان أحمد يجلس بالصالة يشاهد أحد البرامج التليفزيونية ..
هلل
وأخذ يطلق الدعابات وبطريقة ما جعلنى أنسى ما حدث وجلسنا نثرثر كنت أقص عليه أين
ذهبنا وماذا فعلنا ووجدتنى أخبره بما حدث وأنا أطلب رأيه ..
شرد
قليلاً وقال : لتمنحي نفسك فرصة لاتخاذ قرار .. لا تتعجلي فالأمر ما زال فى بدايته
ويمكن أن تنسحبى أو تمنحيه فرصة لينساها .. الأمر كله متعلق بك وبما تستطيعين عمله
..
بحياء
: لا أستطيع أن أنسحب أنا أحبه ..
ثم
استرسلت بتفكر : ولا أخفيك أننى كنت أعرف أن هذا سيحدث من البداية فقد تكرر مراراً
بالمستشفى .. إنه يظنني هى بطريقة ما لا أعرفها رغم أننى لا أشبهها .. ربما بعض الملامح
.. لكن الاختلاف واضح تماماً .. لا يوجد ما يستدعى أو يبرر هذا الخلط فى عقله
بيننا ..
أحمد
فى حيرة : لا أعرف ماذا أقول لك .. هو إنسان لا تشوبه شائبة .. رجل محترم بحق لكن
ربما الأمر يحتاج فقط للوقت ..
وضحك
وهو يتابع : كما أنه أهداك سيارة .. يا حظك السعيد
ضحكت
وأنا أمسك بقميصه : كنت منبهرة تماماً بتصرفه .. كنت مقطوعة الأنفاس من المفاجأة
.. أنا لدى سيارة وحدى ..
أحمد
بمرح : أتركى قميصى ستمزقيه ... أليست لديه
شقيقة يتزوجها أخوك المسكين ؟؟
ضحكت
: أنت تعرف كل شيء .. ألم تكن المخبر الخاص فى هذه العملية العسكرية ..
ضحك
بصوت عالى وهو يقول بسخريته المعهودة : السيد الجنرال رئيس المخابرات كلفنى
بالمهمة ..
وهو
يردد كلمات والدى : ستهتم بمعرفة كل شيء عن أسرته وعنه ووقف فى وضع السلام العسكرى
: تمام يا فندم .. علم وسينفذ على الفور يا سيدي
انطلقت
ضحكاتى عالية ..
خرجت
أمى من غرفتها مبتسمة : ليسعدكم الله .. على ماذا كل هذا الضحك .. فلتضحكونى معكم
أحمد
بمرح : لا أعتقد هذا ستبلغين عنا الإدارة العسكرية ..
كنت
لا أستطيع إيقاف الضحكات وأمى تضحك وتطارد أحمد وهو يثب من فوق المقعد ..
خرج
أبى من غرفته ليرى سبب الضجيج ليجد أحمد
نفسه أمامه مباشرة فاتخذ وقفته بالتحية العسكرية : تمام يا فندم ..
ابتسم
والدي ودفعه بمرح وظللنا نضحك ونقهقه
وكعادة
كل المصريين حين يضحكون تكون اللازمة الكلامية : اللهم أجعله خيراً ..
لا
أعرف لما يرددونها وكأنها تميمة من نوع ما حتى لا يطارد الحزن ضحكاتهم .. أو ربما
الضحك هو الاستثناء فى حياتنا من كآبتها وثقل لحظاتها على قلوبنا ..
لا
أدرى ..
لكني
رددت فى أعماقى كثيراً : اللهم أجعله خيراً ..
***************
شجون تماوايت
فى
قاعة الأفراح بالفندق الشهير على كورنيش النيل كانت ليلة العمر كما يطلقون عليها
حفل
زفافنا ..
كنت
فى أبهى زينة بفستاني الأبيض المتلألئ كما أميرات الحكايات الأسطورية والموسيقى
تنساب فى القاعة ..
كنت
فى قمة سعادتى لا أستطيع أن أصف لكم ما أشعر به ..
فما
أشعر به وأنا جالسة إلى جواره لم يكن ليوصف كان شعوراً أسطورياً من أساطير ألف
ليلة وليلة ..
القاعة
تعج بالحضور الذين يبرقون كقطع الماس فى علبة مخملية زرقاء من القطيفة الناعمة ..
وبدأت
رقصتنا الرومانسية ..
أنا
فى أحضانه هائمة كفراشة تجتذبها الأضواء المتلألئة ..
خفتت
أضواء القاعة ولم يتبقى سوى ضوء متراقص يتابعنا ونحن ندور فى دوائر حول نفسنا ..
ليلة
سحرية بكل ما فى السحر من غموض وإبهار ..
كانت
روحى هي ما يرقص .. هي ما يحلق فى الفضاء ..
كنت
أُرخى رأسى على صدره فى موقع القلب تماماً ..
كنت
أرقص على نبضات قلبه ولحنها المتراقص بين ضلوعه ..
صمتت
الموسيقى وما زلت فى أحضانه أرقص ..
كان
يبتسم ويشير للموسيقى أن تستمر ..
وعزفت
الموسيقى لحناً أكثر هدوء ورومانسية ..
ولأننى
هائمة كلياً لم ألاحظ توقف الموسيقى وعودتها فقد كانت موسيقاى نبضات قلبه ..
فقط
نبضات قلبه ..
كانت
أمسية من السعادة والخيال ..
انتهت
ككل شيء ينتهي ..
لكنها
كانت تكفينى لبقية العمر ..
صعدنا
للغرفة بدلنا ملابسنا لنلحق بالطائرة ..
كان
الموكب يتجه نحو المطار والسيارات تطلق النفير الفرح حتى وصلنا ..
فى
قاعة السفر ..
الأحضان
والقبلات وأنا أودع أمي وأبى ودموعهما تنساب فى سعادة وفرح .. وأنا وجهى مبلل من
الدموع وتبددت زينتى واستحالت لهمجية ذادتها المناديل سوءاً ذهبت للحمام أذلت
المساحيق وغسلت وجهى وعدت لطبيعتى عدت لوجهى
أحمد
أعطانى قائمة من المشتريات والهدايا التى يرغب بها وهو يتوَعدنى بالويل والثبور إن
نسيت شيئاً عند عودتى
ويهددنى
بأنه سيأخذنى أسيرة لمنزل والدي ..
تعالت
ضحكاتي ..
كان
الوحيد القادر على إضحاكي حتى تظهر أضراسي ..
قبل
جبينى وهمس فى أذنى : استمتعى لا تدعى شيئاً يؤثر فى سعادتك وحبك.
فى
الطائرة جلسنا وتعليمات الإقلاع تنساب على شاشات العرض .. وأنا أتابعها في حرص
كعادتى
المضيفات
بين المقاعد يقمن بمساعدة الركاب ..
هو
يعتنى بى ..
يربط
حزام الأمان ويجلس فى مقعده ويربط حزامه ..
ثم
ينظر نحوى ..
كنت
أنظر إلى الخارج أتابع تسارع الطائرة على ممر الإقلاع وبدأت فى الارتفاع عن الأرض
..
كان
الأمر ممتعاً ..
نظرت
نحوه وجدت وجهه ممتقع قاطب جبينه ينظر إلى وجهى مباشرة سألته فى اندهاش : ما بالك
تنظر لى هكذا؟؟
ابتلع
ريقه وكأن غصة ما بحلقه : متى تخلصت من خوفك من الطيران ؟؟
كنت
أفهم بالطبع ما يقصده .. ابتسمت : تخلصت منه من أجلك يا حبيبى .. وتناولت دوائى في
المطار ..
ابتسم
وهو يسألنى : ألن تخبئ وجهك فى أحضاني من الخوف مرة أخرى ؟؟
دسست
وجهى فى أحضانه على الفور : بالطبع لا سأظل مختبئة فى أحضانك من الدنيا بأسرها ..
من مخاوفى .. ومن أحزاني .. أنت سر سعادتي وبقائي ..
أمسكت
بكفه وقبلتها ..
ونظرت
الى وجهه وقد لان وعاد الى نشوته وسعادته ..
وقبل
شفتاي .. قبلة طويلة هزت كيانى كله ..
شعرت
بالانتشاء .. بنبضات قلبي تتراقص طرباً ..
همس
فى أذنى برقة : فلتنامي قليلاً فإن الرحلة طويلة ..
كنت
من الأشخاص الذين لا يستطيعون النوم بحال من الأحوال فى وسائل المواصلات ..
كنت
ممن يستمتعون بالسفر ..
لكن من أجله ادعيت النوم
... لكننى نمت حقاً ..
كانت وجهتنا المغرب ..
فى
ساحة جامع الفنا فى مراكش المدينة الحمراء وقفنا وأيدينا متشابكة كانت أنفاسى
مقطوعة من الانبهار ..
كنا
نشاهد الحواة وهم يلعبون بالثعابين الخطرة كنت خائفة ملتصقة به وهو يحيطني بذراعيه
..
طلب
منى التقاط صورة له والثعبان يحيط برقبته ..
حاولت
إثناءه عن القيام بالأمر لكنه كان متشبث به كطفل وضع الرجل الثعابين حول رقبته
وأنا مرتعبة أحاول التقاط الصورة دون أن تهتز يدى وأخيراً التقطتها ..
وكزته
فى صدره فى دلال : لا تكرر هذا مرة أخرى لقد كنت مرتعبة أنظر الى يدى ما زالت
ترتجف..
ابتسم
وقبلها وهو يجذبنى تحت ذراعه لنكمل جولتنا ..
اجتذبني
صوت فتاة تغني بصوت شجي حزين قوى منفرد بدون موسيقى أولاً ...
ثم
على نغمات آلة تشبه العود يعزف عليها رجل يجلس الى جوارها تردد خلفها فتاتين
والرجل الذى يعزف هذه الكلمات مرة أخرى مع الموسيقى ..
كنت
لا أفهم شيئاً مما تقوله نظرت نحو هشام أسأله عن معنى ما تغنيه الفتاة لم يبدو
عليه الفهم أيضاً
أبتسم
وسأل أحد الواقفين الى جوارها عن معنى ما تغنيه السيدة ذات الصوت العذب الشجي ..
الرجل
شارحاً وكأنه وجدها فرصة ليقوم بدور المترجم : إنها شجون تماوايت هى مواويل حزينه
من الشعر الغنائى الأمازيغي أو مؤنسة وحدة المسافر فى تراث الأمازيغ ..
طلب
منه هشام ترجمة ما تغنيه الفتاة ..
بدى
الرجل سعيداً لاهتمامنا ..
لكنه
أخبرنا أنها كلمات حزينة قد لا نرغب فى معرفة معناها ..
أعطاه
هشام بعض النقود له وللفرقة وطلب منهم العودة للغناء من أجلنا ..
كانت
الكلمات حزينة يرددها الرجل بصوت رخيم مع غنائها ..
سأعود
كى أذهب لأشفى
بسم
الله سأبدأ كلامي
إنه
الفراق .. فراق الحياة يا قلبى ما يخيفنى
لولا
الموت سأعود كى أذهب لأشفى
هو
من يملك مفاتيح الدنيا
دعونى
ابكى على الماضى الجميل الذي هامت به عيونى
حتى
همشت الخيام وأفتقد الخير
لما
كنت أخطو بقدمى
كانت
الأرض مستوية أمامى
أما
اليوم فقد تغيرت تضاريسها بالنسبة لى
يا
صاح
لقد
تغير الطريق فتهت عنه
أماه
سافر وخذ السلام لحبيبى هناك فى الخيام
يا
أماه
ألطف
بى يا قلبى فى بلاد المهجر
أيها
الشوق أطلب منك أن تمهلني حتى أعود لوطنى
طفرت
الدموع من عين هشام فى تأثر ..
أما
أنا فقد كنت غارقة فى الدموع ..
لقد
أخذني صوت هذه الفتاة لمنطقة خفية فى ثنايا الروح ..
لم
تكن تعنيني المعانى قط
صوتها
القوى الحزين ما هزنى ..
واجهنى
يمسح الدموع عن وجنتى ويقبلها فى حنان وهو يحيط وجهى بكفيه ..
مددت
يدى وجففت بمنديلي دمعاته ..
ابتسم
وانطلقنا نجوب المكان وما زال أثر الشجن فى نفوسنا ونحن نبتعد والصوت يبتعد رويداً
رويداً لكنه ظل مختزلاً فى أرواحنا ..
انتقلنا
الى حلقة من الأشخاص الذين يؤدون الحركات البهلوانية وألعاب السيرك فى مهارة
منقطعة على نقرات الدفوف السريعة
وحلقة
أخرى من الراقصين بثيابهم المزركشة البرتقالية وأغطية الرأس الزرقاء المزركشة فى
تمازج بالخيوط الذهبية الأنيقة وهم يؤدون الرقصات الإيقاعية وأيديهم تعزف بالصاجات
النحاسية فى تناغم
كنت
منبهرة بما أراه أمامى عالم خيالى لم تطأه قدماي ولا حتى بأروع أحلامى جمالاً ..
كان
يضحك سعيداً ..
كان
يناديني باسمها فى اغلب الأحيان ولكننى أتجاهل الأمر وكأنه لا يعنينى .. كنت سعيدة
كما لم أكن من قبل وهذا يكفينى ..
جلست
أمام سيدة لترسم الحناء على كفى
النقاشة
هكذا يطلقون عليها فى المغرب ..
فأنا
لم أرسم الحناء على كفى من قبل حتى في زفافى ..
ذهب
هشام ليحضر لنا بعض الطعام من الأكشاك المتناثرة بالساحة فقد كنت أتمزق جوعاً وهو
أيضاً ..
بجانبنا
كانت تجلس امرأة عجوز وهي تنظر باتجاهى وتتمتم بكلمات لا أفهم منها شيئاً ..
وسألت
النقاشة عن معنى ما تقوله المرأة العجوز ؟
نصحتني
هامسة بالابتعاد عن السحرة وعدم إعارة الأمر بالاً ..
سألتها
فى تعجب : هل هى ساحرة من نوع ما ؟؟
لا
أرى ألعاباً سحرية أمامها تمارسها ... لا يوجد سوى بعض أوراق تشبه أوراق اللعب
ومجموعة أحجار غريبة المظهر .
همست
: إنها عرافة ومن الأفضل الابتعاد عن هؤلاء الفقها !!
ظننت
أن المرأتان ربما بينهما خلاف من نوع ما لكننى صممت على معرفة ما تقوله هذه العجوز
..
أنهيت
رسم وتحركت نحوها وجلست وسألتها أن تفسر لى ما تقول ؟؟
كانت
كلماتها غير واضحة فاقتربت منها أقصى ما يمكن حتى أوشك فمها من دخول أذنى ..
فى
همس يشبه الفحيح : عليك التخلص منها ؟؟
فى
عدم فهم : أتخلص منها من هى ؟!!
تابعت
بنفس الفحيح المقزز : عليك التخلص منها حتى يكون لك وحدك والا فإنها ستستولى
عليكما معاً ..
نظرت
لها فى دهشة والبلاهة تقطر من ملامحى وعدم الفهم ..
ابتسمت
العجوز وقالت فى سخرية : إذا هي قد جعلتك تنسى كل شيء .. الطيف من أحلامك ..غيرى
كل شيء فى حياتك ... كل شيء ..
ومدت
يدها أمام وجهى تحركها فى دوائر وكأنها تدخلنى فى حالة من التنويم المغناطيسي ..
وأنا لا أقاوم .. أو لا أستطيع المقاومة .. كنت فاقدة لكل إرادة أملكها قفزت
الأحلام تتدافع إلى رأسي بتفاصيلها .. لا لا .. بأدق تفاصيلها ... رواء .. الحلم
.. ستمنحني طيفها ..
تأخذه
من البئر وتحلق وتتركني أهوى ..
الجليد
ينسكب داخلى ..
أفقت
من الحالة التنويم المغناطيسى هذا ووجدتنى أصرخ فيها : إنه مجرد أحلام ..
ضحكت
فيما يشبه الفحيح وكأنها أفعى تنفث سمها وقالت مجدداً : غيرى كل شيء . كل شيء ..
لكن ليس دفعة واحدة حتى لا تشعر بك وتستولى عليه منك
ملت
برأسي نحوها في تحدى : لو كان ما تقولينه حقيقة فهى تعرفه ..
ضحكت
نفس الضحكة التى صرت أمقتها بكل ما فيها : أنا فقها لقد صرفتها خلفه وستعود معه
فاحذري وغيرى كل شيء دون أن تشعر ..
أخرجت
كل ما معى من مال وأعطيته لها أيضاً دون إرادة فقد كنت ساهمة .. شاردة .. وجلة ..
قلبي منقبض كأنما شيء ما يعتصره ..
ابتعدت
عنها سريعاً ..
ابتعدت
وكأن آلاف الحيات هربت من الحواة وصارت تطاردنى ..
توجهت
نحو أكشاك الطعام المتناثرة أبحث عنه فلم أجده عينى تدور فى الوجوه .. الضياع ..
أشعر بالضياع وحدى ..
صوت
المغنية الحزين يصدح : لقد تغير الطريق فتهت عنه .. البكاء الارتعاش .. الجموع
تتحلق حولي ..
وأخيراً
رأيته عدوت نحوه وارتميت بين أحضانه وضممته بقوة .. كنت أرتعش .. كنت أبكى ...
كان
يحمل الطعام بين يديه فلم يستطع ضمى لكنه فى قلق سألنى : ما الذى أفزعك لهذه
الدرجة ؟؟ ماذا حدث ؟؟
فى
حيرة وتخوف هل أقص عليه لا لن أفعل : إنها العرافة قالت لى أشياء سيئة عن المستقبل
.. كما أنني تهت عنك فى الزحام وظننت أننى فقدتك..
قبلنى
وضحك وهو يسخر من حماقتى : وهل تصدقين العرافات ؟؟ كيف لطبيبة مثلك أن تصدق هذه
الخرافات .. فالمستقبل بيد الله وحده .. أكيد أن المرأة تثرثر للحصول على المال
فقط لا تخشى شيئاً ما دمت معى ولا تبتعدى عن عيونى مرة أخرى يا جميلتى ..
ناولنى
طعامى وأمسك يدى برقة يتأمل النقوش عليها وانطلقنا في جولتنا وأنا كطفلة صغيرة
لكنها فى منتصف العقد الثالث من العمر خائفة منكمشة تحت ذراعه ..
نقضم
السندوتشات فى نهم لكنى شاردة .. نعم المستقبل بيد الله ..
لكن
كيف عرفت عن الحلم الذى نسيته أنا تماماً ؟؟ وكيف تقول إنها تبعته ؟؟ عقلى لا يصدق
حرفاً مما تقوله فمن الناحية العلمية والدينية هذا أمر مستحيل فمن يموت لا يعود
مرة أخرى ولا حتى روحه ..
فالأرواح
تسكن فى البرزخ .. عالم الروح الذى تأوى إليه جميع الأرواح فى أبدية مطلقة ..
عقلى
مرة أخرى يسترجع تفاصيل الحلم بدقة ..
هى
قالت لو أحبنى ستتركنا وتذهب .. لقد أصبحت مخرفة بسبب هذه الساحرة الشمطاء العجوز
وكلماتها اللعينة التى سكبت فى قلبى آتون من نار..
لأنسى
كل هذا وأعود لسعادتي ..
ركبنا
أحدى العربات التى تجرها الخيول ( الكوتشى ) هكذا يطلقون عليها فى المغرب وأخذنا
نتجول في أنحاء المدينة ..
لكن
ما حدث ما زال يثقل روحى ويفقدني الاستمتاع بحياتى ..
يا
ليتني استمعت لنصيحة النقاشة ولم أعر هذه المرأة بالاً ولم أقترب منها حتى ..
************
تموز شهر الحياة
كان
سائق العربة يقوم بدور المرشد السياحى فى ذات الوقت وهو يشرح لنا كل ما نمر به ...
أوصلنا الى قصر الباهية درنا نتفقد فنائه المتسع ونافورة الحوض وزخارفه الزرقاء
الزاهية ..
عدنا
مرة أخرى للعربة كنت أريد العودة للفندق فلا أشعر بمتعة : هشام لنعود للفندق
ونستريح قليلاً ..
يربت
يدى برقة : هل ما زلت خائفة ؟؟ إلى هذه الدرجة أزعجتك هذه المرأة ماذا قالت لك
تحديداً ؟؟
لا
أستطيع أن أخبره لن يتفهم الأمر ..
أخشى
أن يعود لحالته السابقة وغيبوبته لن أنبس بكلمة ..
بكل
تأكيد لن أنطق بحرف عن هذا الأمر : أشياء تخص عملي ومستقبلى كطبيبة ..
هشام
يضحك : هذا يؤكد كذب هذه النصابة عندما نعود للقاهرة ستعرفين وتتأكدي من هذا ...
هيا انسى أمر هذه العجوز و نستمتع برحلتنا ..
فى
تساؤل طفولي : ماذا سيحدث عندما نعود ؟؟ هيا أخبرني أريد أن أعرف ..
تزداد
ضحكاته : لقد حصلت لك على وظيفة هامة فى أحد المستشفيات الخاصة
بفضول
أكثر : ما اسم هذه المستشفى هل أعرفها ؟؟
هشام
: عندما نعود ستعرفين فلا أذكره الآن .. هيا بنا نكمل جولتنا
حملنا
سائق العربة الى مسجد الكتبية هذا البناء العظيم المبهر بقبابه والصوامع المزخرفة
وحلى الفسيفساء وأحجاره الضخمة العملاقة ..
صلينا
العصر في المسجد العتيق الجميل
كان
ما يشغلنى حقيقة السر الذى يخفيه عنى حتى نعود .. فضولى يقتلنى ...
لم
أكن مقتنعة بموضوع الوظيفة .. يبدو لى أنه كعادته يدبر أمراً ما .
بعد
الجولة عدنا نحو عربة الخيول لم أكن لأتحمل أكثر عدنا الى الفندق أو الرياض كما
يطلقون عليه وما إن دلفت الى الغرفة حتى بدلت ثيابى ورقدت فى ثبات عميق ...
عميق
ومظلم وكم كان هذا يروق لى كنت كصخرة بقاع المحيط ..
وجلس
هشام بجوارى في الفراش يقرأ أحد الكتب التي اشتراها أثناء جولتنا وأنا مستمتعة
بالنوم في أحضانه كهرة تستشعر الدفء وتأوى إليه .
شعرت
بشيء يداعب أذنى كحشرة ولا ينفك يزعجنى ..
فتحت
عينى في تثاقل لكن ما رأيته جعلنى أقفز مفزوعة
فهناك
شبح يقف فى منتصف الغرفة فى الظلام وضوء خافت يتصاعد من رأسه
هممت
أن أصرخ
لكنه
قفز نحوى وهو يصرخ : أفزعتك أخيراً استيقظت أيتها الكسولة ..
إنه
هشام صرخت فيه بدلال : يالك من سخيف لقد أفزعتنى حقاً .
وضعت
يدى على قلبى وقفزت فوقه أكيل له اللكمات وهو يضحك ثم ضم يداى خلف ظهرى فأصبح وجهى
فى مواجهته تماماً عينى ترى عينيه الجميلتين .. عبق أنفاسه برائحة العسل يتسلل فى
أعماقى عابراً إلى رئتاي بدلاً عن الهواء .. أسدل التيم جفونى وغبنا فى قبلة ساحرة
ممتزجة بالعشق والشوق معاً .. أفقنا منها على صوت طرقات على باب الغرفة ..
ذهب
وأضاء الأنوار وفتح الباب لم يكن هناك أحد
خرج
ووقف بالممر والتفت يميناً ويساراً استغرب الأمر ..
وضع
لافتة عدم الإزعاج على مقبض باب الغرفة وعاد إلى الداخل وأغلق بالمزلاج ..
كان
هشام يرتدي عباءة مغربية وبتساؤل فضولى : من صاحب الطرقات ؟؟ ومن أين أتت هذه
العباءة ؟؟ هل خرجت وأنا نائمة ؟؟
تناول
عباءة مغربية نسائية ملقاة على السرير حيث كان يوجه كشاف الإضاءة بالهاتف لأتوهم
وجود شبح : وهذه أيضاً لك .. لقد مللت وأنت نائمة حاولت لمرات إيقاظك دون جدوى
خرجت واشتريتهم لنا وعدت .. هيا نتنكر فى زينا المغربى الفضفاض المريح ونذهب
لنتجول ونأكل ..
انقضضت
عليه أحاول لكمُه دون جدوى فقد كان يصد لَكماتى فى مهارة وكأنه يعرف مسبقاً
بوجهتها ..
بدأت
أنفاسي تتصاعد من المجهود وأنا أُهدده : لا .. تتركنى .. ثانية فى مكان .. وتخرج
مهما كان الأمر .. مفهوم ..
وأخيراً
وصلت لكمة أو هو تركها تصل ..
حملنى
من وسطى بين يده .. قدماى لا تلامسان الأرض .. بسطت يدى على كتفيه .. وطوقت عنقه
وغبنا فى لذة من القبلات واللحظات الحميمية .. لحظات من العشق السرمدي .. التلاشي
.. الذوبان ..
مكعبين
من الجليد ذابا وتعانقت القطرات وامتزجت فى قطرة واحدة ..
عادت
الطرقات لكننا لم نكن نسمع سوى همساتنا الدافئة ونبضاتِنا المتسارعة وأنفاسنَا
اللاهثة
عند
منتصف الليل كنا نعدو فى سعادة غامرة فى ساحة الفنا مرة أخرى .. تناولنا الطنجية
المغربية الشهية كنا نكاد ننفَطر جوعاً ..
مضينا
نتسكع فى مرح وسعادة ..
المساء
غير الصباح تماماً في هذه الساحة .. الأضواء .. الموسيقى ..
حلقات
لأشخاص يروون القصص ..
ربما
هذا حال المدن دائماً ..
كانت
الفرق الموسيقية تعزف ألحاناً راقصة وفرق أحيدوس هذا اسمها فى تراث الأمازيغ
تتراقص فى سعادة وشاركناهم الرقص بذات طريقتهم فى سعادة .. كان الزحام شديداً جداً
..
والنسيم
عليلاً والهواء رائعاً يحمل أنغام موسيقى المزمار الفرح من بعيد وأصوات الدفوف
تنقر فى سرعة ..
كانت
أمسية سعيدة مجنونة ..
كانت
أمسية من العشق ..
كانت
أمسية من نغم الحياة ..
كانت
أجمل أمسية من شهر يوليو على مر حياتى بإثرها ..
إنه
تموز شهر الحياة .......
****************
كابوس فاس
في
الصباح ايقظنى هشام لننطلق في رحلتنا .. لم أكن ممن يهوون كثرة التنقل والحركة ..
فحياتى كلها كانت حركات أستطيع أن أحصيها بكل بساطة ..
توجهنا
الى حديقة ماجوريل .. كانت ذات عربة الكوتشى وسائقها الودود .. لم يكن يرهقنى سوى
هذا الكم من الخطوات لكن الشعور بأننى في رحلة سياحية كان يهون على الأمر قليلاً
.. هذا بالأضافة لهذا الدينمو الذى أحببته كان لا بد أن أجاريه ولا أفسد عليه
متعته .
ذهبنا
الى ضريح السعديين .. ثم الى متحف مراكش .. ثم الى حديقة المنارة
ثم
.. ثم ... ثم أنفجرت كالقنبلة وأنا في عربة الكوتشى : كفى أرجوك .. لقد تعبت ..
أريد أن أتناول الطعام وأنام .. أنت لا تتعب يا حبيبى .
ابتسم
السائق من طريقتى الطفولية في الأنفعال : سأذهب بكم الى مطعم .. ستشكرونى على
الطعام الذى ستتناولونه فيه .. هو مطعم غير سياحى نقصده نحن من أهل البلدة ..
سيعجبكم بكل تأكيد .
حقيقة
لم يكن الرجل يخدعنا كان الطعام شهياً فعلاً .. وقد أكلت بشراهة ربما من لذة
الطعام .. وشعرت بثقل المعدة والرأس .. إنه النوم .. لكن ليس مع هشام .. فقد صرف
سائق الكوتشى وقرر أن نعود سيراً على الأقدام .. أرحمنى يا الله .. كنت اترنح وأنا
أسير .. شعرت أننى عجوز في التسعين تحاول اللحاق بحفيدها الشقى العابث يعدو وسط
دروب مراكش .. يا ويلى .
في
ظهيرة اليوم التالى كان السائق ينطلق بالسيارة قاصدين شلالات أوزود .. جلسنا في
المطعم المطل على الشلالات .. ما أجمل هذه الطبيعة البكر .. هذه المياه المتدفقة
من أعلى الجبال في سلسلة متتابعة جميلة من الشلالات التى تصغر تدريجياً ..
تناولنا
الطعام الشهى وتجولنا قليلاً فى وسط الشلالات وصولاً حتى أعلى نقطة .. نعم أعلى
نقطة .. ثم العودة حتى أسفل الشلال .. يا ويحى أريد قدمين من حديد لأستطيع
المواصلة معه .
ركبنا
الطوف بعد إلحاحه كثيراً فأنا للأسف أملك واجدة من هذه الفوبيا .. المشكلة أنها
فوبيا من البحر .. النهر .. الزوارق كلها عندى تعنى كلمة واحدة الغرق
أقتربنا
من مصب الشلال كنت ملتصقة به خائفة من السقوط في الماء .. لكن لحسن الحظ لا أمواج
الطوف يتهادى في رقة على صفحة المياه والصخور وقد اكتست باللون البني والأخضر في
تناسق .. كانت تجربة من نوع ما مثمرة فقد تغلبت على خوفى إن لم يكن بصورة
كاملة لكن بالنسبة لى هذا أنجاز عظيم
في
اليوم التالي توجهنا إلى مدينة فاس .. كان السفر طويلاً ومرهقاً .. وصلنا
للفندق .. كنت أريد النوم بشدة وهشام يريد الانطلاق ولم أجد أى فائدة من معارضته
.. يتهمنى بالكسل .. ما ذنبى ؟؟
أنه
يغفو أثناء السفر .. أما أنا فأظل مثل طائر العقاب بعيون متيقظة ..
أو
كبومة من رأس صغير وعينين لا تغمضان يا ويلى ..
مجبرة
بدلت ثيابي وتوجهنا الى المدينة القديمة كنت أشعر بالملل فهى تشبه الى حد كبير خان
الخليلى بحى الحسين فى القاهرة .. المصنوعات المزركشة .. الحقائب الجلدية ..
المشغولات النحاسية ..
وبعد
توسل اقتنع بالعودة الى الفندق .. دلفنا إلى الغرفة .. كان دائماً يحرص أن تكون
الغرفة تحمل الرقم سبعة .. ألقيت بنفسي في الفراش .. وألقى بنفسه الى جواري
..
:-
أشعر أنك مرهقة هل تودين الراحة غداً ؟؟
:-
لا فقط لننام الليلة وغدا ننطلق كما تشاء .. فقط تتركني أنام الليلة .. وغداً
ستجدني كالنحلة الطنانة التى لا تهدأ ..
ابتسم
غير مصدق :- فليكن سأذهب وأرتب رحلة الغد وأعود سريعاً ..
أمسكت
به بيدى متشبثة بقميصه : ألم أحذرك من تركى وحيدة في أي مكان حتى بعد أن نعود
للقاهرة .. أنا أخشى التواجد وحيدة فى أماكن لا ألفة بينى وبينها ..
ابتسم
: أعدك سيكون هذا سريعاً وأعود قبل أن تفكرى فى النوم حتى ..
أعطيته
ابتسامة صغيرة من جانب فمى : سأحاول لكن لتعد لى سريعاً .. هل فهمت .. سريعاً جداً
.. بأقصى سرعتك حتى تدركني قبل أن أنام ..
غادر
الغرفة وجلست أشغل نفسى بالتطلع للهاتف ومشاهدة الرسائل .. وغفوت دون أن أشعر ..
غرقت في النوم .. وأنطلق كابوسى ..
وقفت
العرافة فى وسط الغرفة تردد : لتغيرى كل شيء ماذا تنتظرى ؟؟
فجأة
ظهرت رواء من الفراغ وهى تحمل فى يدها سكين حاولت طعن العرافة به لكنها اختفت
وتلاشت فى الهواء ..
ورواء
تدور فى الفراغ تبحث عنها .. ثم رأتنى راقدة فى الفراش .. أخذت تقترب والسكين فى
يدها .. كنت خائفة .. مرتعبة .. لا أقوى على الحركة .. كأننى مقيدة .. كأننى
مسلوبة الإرادة .. لا أستطيع حتى الصراخ .. وهى تقترب منى .. رواء .. رواء .. صوت
هشام يناديها .. يد تهز وجهى فى رقة : رواء استيقظى .. كان الى جانبى بنفس الوضع
منذ قليل إنه هشام .. نظرت الى وجهه فى
تجمد .. العرق يتفصد من جبينى .. إنه ما زال يخاطبنى باسمها هي بين الحين والآخر .
أخرج
منديل ورقى من جيبه وأخذ يمسح جبينى من العرق : هل كان حلم سيئ ؟؟ أخبريني ..
:-
لا شيء .. أمى تقول أن الكوابيس يجب ألا نقصها حتى لا تتحقق .. متى عدت ؟؟
:-
منذ قليل دخلت الغرفة لأجد جسدك يرتعش وكأنك فى كابوس ما ..
ربت
على يده وقمت دلفت الى الحمام وأغلقته بالمزلاج وظللت ابكى فى صمت .. وقفت أمام
المغسلة لاغسل وجهى .. ونظرت إلى المرآة ..
لم
تكن الصورة في المرآة سوى انعكاس لصورتها ..
ظللت
أتحسس وجهي بيدي وأنا أتسائل : أين وجهى ؟؟ أين صورتى ؟؟ كيف يحدث هذا لى ؟؟
أمسكت
بزجاجة من العطر وقذفتها نحو المرآة وتهشمت .. أصبحت صورتى أنا وسط شروخ المرآة
البشعة .. صورة ممزقة .. أحاول عبثاً أن أفتح الباب دون جدوى .. المزلاج يأبى
التحرك .. الزجاج على الأرض يتجمع لتظهر صورتها مرة أخرى .. فصرخت .. وألقيت عليها
أقرب شيء ليدى لتعود وتتهشم .. الباب أنفتح من تلقاء نفسه .. هشام الذى تركته
بالغرفة منذ قليل لم يكن بها .. الغرفة خالية .. كيف ؟؟؟ تدور عينى في الغرفة وأنا
أخرج في خطى بطيئة متوجسة .. وفجأة قفز شيء من خلفى وغطى رأسى بما يشبه الكيس
البلاستيكى الشفاف .. لم أراه .. أنفاسى تنقطع .. أحاول الصراخ دون جدوى .. أحاول
التخلص من الشخص الذى يخنقنى بالركل دون جدوى
لكن
شيء ما خلصنى ودفعنى بقوة نحو الفراش ... لأقوم بفزع
كنت
ما أزال فى الفراش .. الغرفة خالية إلا منى .. لا يوجد أحد .. فقط أنا .. أحاول
إلتقاط أنفاسى .. صدرى يعلو ويهبط وكأننى كنت أعدو .. العرق رغم هواء المكيف الرطب
يغرق جسدى كله .. تمالكت نفسى وذهبت إلى الحمام بسرعة .. لا مرآة مكسورة ..
كل شيء كما هو .. عدت للغرفة والدموع تنساب في حرارة ولوعة .. وأنا أتحامل
على الجدران في عجز حقيقى وأنهيار .
دلف
هشام للغرفة : لقد أعددت لك رحلة ..
توقف
عن الكلام فور رؤية دموعى وحالتى واقترب منى يضمنى بقوة : لماذا تبكين ؟؟ أنا لم
أتأخر لقد عدت على الفور ..
-
فقط حلم سيئ .. أريد أن نترك هذه الغرفة ونذهب الى غرفة أخرى ..
-
فليكن لنغير الفندق ونذهب لفندق آخر
-
لا فقط الغرفة .. ومنذ الآن لا أريد أى غرف برقم سبعة ..
-
هل نسيت ؟؟ أنت من اختار الرقم سبعة .. وأحببت أن يحمل هذا كل مناسباتنا وسعادتنا
.. ماذا بك ؟؟؟
-
فقط أشعر بالرغبة فى القليل من التغيير ...
-
هل مللت ؟؟
-
أريد القليل من التغيير فقط ..
كنت
أقولها بتوسل : فلنرى حظنا مع شيء أخر .. أرجوك ربما نجد الراحة هكذا ..
اقتنع
بالفكرة أخيرا وهز رأسه في استسلام .. أما أنا فقد شعرت بالأنتصار .. كان هذا الكابوس لحظة فارقة قررت فيها التخلص
منها للأبد ..
تعرفون
بالطبع من أقصد .. إنها رواء بالطبع ..
وهكذا
بدأت رحلتى فى تغيير حياتى كما أخبرتني العرافة التى لم اعرها بالاً فربما كنت
مخطئة وهي على صواب ..
بدأت
بأرقام الغرف .. موضع النوم .. الطعام ..
بدأت
أسأله عن الأشياء كيف يحبها هو ؟؟
الطعام
ما الذي يريد تناوله هو ؟؟
فقد
كان دائماً يحاول فعل الأمور كما تحبها رواء ..
قررت
فى هذه اللحظة إخراجها من حياتى ..
كيف
لا أدرى ؟؟
لكنني
سأفعل هذا تدريجياً كما نصحتني العرافة
*********
أنا لحبيبى
فى
الصباح توجهنا الى جامع القرويين .. ثم إلى منطقة المدابغ ..
وفى
اليوم التالى سافرنا الى المدينة الزرقاء مدينة شفشاون ..
وصلنا
ساحة وطأ الحمام فى وسط المدينة .. تناولنا الطعام هناك .. ثم ذهبنا الى رأس الماء
.. كان المشهد ساحراً .. الماء المتدفق تشعر أنه يغسل همومك وأنت تراقب تدفقه فى
رحلته عبر المدينة .. كنا نتجول فى الدروب الضيقة وكل شيء من حولنا باللون الأزرق
الواجهات .. المحال المتناثرة ..
كنت
أشعر بهشام وقد تكدر صفوه .. كان يبتسم كلما نظرت نحوه .. لكنه كان شارد الذهن ..
عابس .. لم يكن هو هشام الذى كان معى منذ أيام .. حتى تحركاتنا كانت محدودة على
غير عادته.
فى
طنجة كنا نجلس على الكورنيش نراقب البحر بأمواجه المتدافعة .. كان ما يزال شارداً
.. كنت أثرثر عن حياتنا .. وسعادتنا .. وهو لا يجيب..
:-
حبيبى لا تبدو سعيداً .. هل تريد عودتنا للقاهرة ..
:-
لا أعرف .. أشعر بضيق لا أعرف سببه ؟؟
:-
هل هذا بسببي ؟؟
:-
صدقاً لا أعرف ما الذى يضايقنى ويمنعنى من الاستمتاع بالرحلة ..
:-
هل ما حدث ضايقك ؟؟ إنه مجرد تغيير بسيط .. كيف له أن يفعل كل هذا بك ؟؟ إن كان
هذا سبب كآبتك هذه فلتفعل ما تريده .. المهم أن تكون سعيداً .. وأن تكون معى .. كل
ما أريده هو سعادتنا ..
وأخيراً
أبتسم : هيا لنذهب للفندق ونستريح قليلاً ..
وصلنا
الفندق ووقف لحجز الغرفة وهو متردد .. ربت على يده .. وطلبت أي غرفة تحمل رقم سبعة
من موظف الاستقبال .. أعتذرلعدم توفر طلبى ..
طلب
هشام منه أى غرفة شاغرة ..
استوقفته
واقترحت عليه :- ما رأيك أن نستأجر شقة تطل على البحر .. سيكون شيئاً جديداً لنا .
وافق
على الفور .. وكأن فكرتى راقت له ..
كانت
ليلتنا هذه هادئة ظللنا بالشقة نراقب البحر من الشرفة و نستمتع بهواء البحر النقى
ونحتسي القهوة .. ونستمع للموسيقى وصوت فيروز الجميل يصدح .. أنا لحبيبى وحبيبى
إلى
وقف
هشام بشكل مسرحى فجأة وعلى وجهه ابتسامة أخاذة ومد يده لى : هل تسمحي بمراقصتى يا
أميرتى ..
قفزت
على الفور نحوه كطفلة .. وبدأنا الرقص .. الخطوات .. الموسيقى تنساب .. هواء البحر
الساحر .. ذبت في أحضانه .
حملني
كطفلة بين يديه ودلف بى للغرفة ..
وعشنا
ليلة أخرى من العشق المحموم بالشوق وجوع الجسد ..
بين
يديه أكون كورقة من أشجار السنديان تهوى فى تراقص يداعبها النسيم العليل وكأن
الرحلة إلى الأرض أبدية .. فقط الموسيقى ..
نسيم
البحر مذاق القهوة المرة الممزوج بالعسل ..
فى
الصباح ذهبنا الى غابة الرميلات المطلة على البحر .. الجبال .. الأشجار الكثيفة
على جانبى الطريق ..
كنت
قابعة كهرة متكورة على صدره .. أراقب فى فضول وهو يضمنى ..
وصلنا
.. أعلنها السائق ..
ترجلنا
من السيارة .. وتجولنا فى نزهة بين الأشجار الكثيفة .. وسط الطبيعة الخلابة ..
لساعات
مشينا حتى تعبنا فجلسنا تحت شجرة عملاقة نستظل بها ..
غفوت
بين أحضانه لدقائق ..
تابعنا
رحلتنا الى رأس سبارطيل نقطة التقاء البحر بالمحيط الأطلسي ..
كان
مشهد البحر جميلاً من هذا الارتفاع كنت أجلس على السور الخشبي في مواجهته وهو
يحتضنني فى خوف ..
كنت
أتأرجح بجسمى للخلف فتشبث بى أكثر ..
كنت
سعيدة باللعبة .. وبهذا الشعور داخلى .. هو يحبنى ..
يحتوينى
فى خوف .. هذا أجمل ما تشعر به امرأة فى الدنيا ..
احتواء
الرجل لها وخوفه عليها
دلفنا
الى مغارة هرقل الأسطورية فى باطن الجبل فى أشقار ..
كنا
نسير فى المغارة .. هشام يقص أسطورة هرقل من الكتيب الذى يحمله بين يديه وأنا أردد
: سبحان الخالق العظيم ..
وفى
نقطة داخل المغارة كنا نرى المحيط .. وقفنا نتأمل إبداع النحت فى الصخور ودقته ..
كما هى جميلة الطبيعة حين تفيض جمالاً يتعلق بالعيون ليصنع ذكريات جميلة ..
كنت
ألتقط الصور لنا فى كل مكان نذهب إليه .. جذبت يده ووضعتها على كتفي لألتقط الصورة
..
فى
عدسة كاميرا الهاتف كانت رواء تقف خلفنا مباشرة
تسمرت
أناملي وبطرف خفى نظرت إلى حيث تقف .. لم أجد شيء ..
عدت
أنظر للهاتف لم تكن هناك .. تنفست الصعداء والتقطت الصورة..
:-
لنلتقط صورة المحيط فى خلفيتها ..
وقفنا
أمام السلسلة المعدنية الغليظة وأولينا المحيط المطل علينا من الكوة الجبلية
ظهورنا ورفعت حامل الهاتف لالتقاط الصورة مرة أخرى تظهر عاقدة ذراعيها أمام صدرها
فى فراغ الكهف خلفنا ..
لا
بد أنني أتوهم ..
سألت
هشام بخبث : هل الصورة تظهر المحيط جيدا ؟؟
:-
تظهر المحيط لكن تنقصها ابتسامتك ..
إذا
هو لا يراها .. لكننى أراها بوضوح .. استدرتُ ونظرت خلفى ..
المحيط
لا غيره ..
جذبت
هشام من ذراعه بقوة : هيا لنذهب إلى مكان آخر ..
اندفعت
به للخارج وهو لا يقاومنى فقط يبتسم وينعتنى بالمجنونة
ذهبنا
باتجاه شاطئ الرملة المتاخم للكهف .. نسير وأيدينا متشابكة في عناق .. الموج ينساب
تحت أقدامنا يخلخل الرمال فترحل معه إلى داخل المحيط .. ترسم خطواتنا خط غائر فى
صفحة الرمال لخطوات ثم يأتي الموج يمحوها فى كبرياء ...
كان
يراقبنى وقد اتسعت عيناه ... أعرف هذه النظرة ..
أصبحت
واثقة حين تتحول ملامحه لحالة من التحقق غير المتيقن مما تراه عيناه .. إنه يراها
هى ..
أفلت
يدي منه وعدوت نحو المحيط أوجه أمواجه الركلات فتتناثر فى فوضوية تبلل سروالى
فأطلق ضحكاتى مفتعلة السعادة .. فأنا أكاد أبكى كمدا .. يراقبنى صامتا فقط يدقق
النظر .. يبدو اننى من يتحول لمريض نفسى .
للأسف
تمنعنى فوبياى من الأقتراب أكثر حتى لو تغلبت عليها فأنا لا أجيد السباحة تماماً ...
بل أخشاها حد الموت علاقتى بالبحر فقط من فوق رمال الشاطئ لا أبعد ولا أكثر مهما
كان .. وإلا لكنت ابتعدت إلى داخل المحيط غير عابئة بحياتى ..
فى
المقهى على السفح جلسنا نحتسى الشاى المغربى ونراقب المحيط فى صمت ..
كثيراً
ما يكون الصمت حكمة وكثيراً ما يكون الصمت موت ..
هل
من شيء يبدد هذا الصمت ؟؟
كلماتى
تخذلنى تفقد معناها قبل أن تتحول الى ذبذبات تلتقطها الأذن لتفسيرها فى مركز
اللغات المختزلة فى المخ ..
وفى
لحظة تسقط فتاة صغيرة كانت تهبط السلم .. سقطة مدوية .. يلتف الناس حولها .. أشق
الجموع فى عجلة .. كطبيبة أهرع نحوها وافحصها يجب الا يحركها أحد .. لا أستطيع
رؤية من يحتاج الى رعايتى وتركه ..
الدماء
تنزف من جبينها .. إصابة الرأس بالغة فى سرعة أطلب من المتحلقين حولنا أن يفسحوا
فيما بينهم ليتركوا مساحة للهواء ..
أتابع
مؤشراتها الحيوية .. هى بخير لا شيء يدعو
للقلق .. ضمدت جرحها بقدر المستطاع حتى استعادت وعيها .. لا بد من أن أتأكد من عدم
حدوث ارتجاج بالمخ أراقب حدقاتها أطلب منها متابعة أصبعى حيث يتحرك .. إذا هى بخير
.. ساعدتها فى النهوض وسط شكر الموجودين على مساعدتى ..
هو
وسط الجموع عيناه تضحكان .. شفتاه تضحكان .. يعقد يديه أمام صدره .. هو أنا ما
يرانى الآن .. أسرعت نحوه تشابكت الأيدي ..
وانطلقنا
في مسيرة العودة ..
كم
تروق لى هذه الطبيعة الخلابة بجمالها وجلالها لكننى لست ممن يتذوقون جمال الأشياء
من حولهم ..
قصدنا
أحد المطاعم الشهيرة .. المطلة على البحر .. كان الهواء يداعب شعري فيسدله على
وجهى .. بأنامله يهذب خصلاته الشاردة ..
تناولنا
الطعام وعدنا الى الشقة الصغيرة .. لكم أحببتها .. المنظر الخلاب للبحر .. شرفتها
الشاسعة .. أضواؤها الخافتة الرومانسية .. لثلاثة أيام كانت هذه الشقة محطة عشق لا
يهدأ ولا يكل ..
كم
وددت لو ظللنا بها الى الأبد
************
فوبيا
وها
قد حان موعد الرحيل .. إلى أين ؟؟
الى
جزر الكنارى الرائعة ذات الطبيعة الخلابة ..
أو
جزر السعادة الخالدة كما يطلقون عليها ..
تنريفى .. ولا بالما .. سانتا كروث .. لاس
بالماس .. ويوروماكس ..
من
شرفة الفندق نرى البحر الساحر فى الأفق الى مدى البصر .. اللون الفيروزى المتدرج
حتى الأفق .. التقاء الفضاء البعيد يصنع لوحة من لونين الرمادي والأزرق .. صعدنا
إلى جبل تايدى فى تنريفى أرض الجمال الأبدية .. الطريق المتعرج الضيق
والجبال تتدرج فى بساطة وكأنها منحوتة بدقة ..
من
السيارة كنت أراقب فى شيء من الخوف كلما صعدنا أكثر ..
جلسنا
تحت المظلة الخشبية نتأمل الطبيعة الرائعة من حولنا ..
كانت
الصخور بألوان مختلفة على طول الخط كان أروعها لون الكشمير المائل للحمرة .. كان
يعجبني بشدة ..
بعد
ساعات من التجول والاستمتاع بجو الجبل المشبع ببخار الماء فوجئت بأننا فوق السحاب
..
ليس
تعبيراً مجازياً بل حقيقة ... بالفعل كنت قمة الدهشة
السحب
متراكمة على امتداد بصرنا عند نقطة معينة من الجبل ..
بعد
ساعات من المتعة عدنا للفندق لتناول الطعام ونحظى بقسط من النوم ..
فى
اليوم التالى كان يجرنى جراً على الشاطئ .. استأجرنا أحد الزوارق .. اصطحبنا في
جولة ممتعة بالنسبة لهشام وحده بالطبع أما أنا فقد كنت منكمشة .. ألبس سترة النجاة
.. شكلى وهيئتى مضحكة .. الذى كان يخيفني أكثرعندما
يسرع الزورق لحظتها أتخيل نفسى أهوى فى الماء وهذا يعنى لى الموت مباشرة .. ليس
بسبب الغرق وإنما بسبب السكتة القلبية بالتأكيد أو أن هذا ما أتمناه لو حدث هذا
الأمر .. كنت أجلس فى أحضانه منكمشة ويدى تطوقه بقوة تكاد تؤذى ضلوعه ..
كان
سعيداً حين طوقته خائفة وكأنه يتلذذ بشعور الضعف الذى يبدده بوجوده الى جوارى ..
كان وقتا ممتعاً عدنا بعدها الى الشاطئ .. الحمد لله وددت لو قبلت الأرض فرحا
بالعودة ...
الغريب
أن الشواطئ هنا سوداء من أثر البراكين .. كلما عاش المرء كلما رأى أكثر .. وعرف
أكثر .. وتعبت قدماه بالطبع أكثر
بعدها
ذهبنا الى الأهرامات الستة الصخرية .. كانت تشبه أهرام سقارة المدرجة .. لكن
أحجارها أكثر صغراً ودقة .
كان
يومنا مرهقاً ظللنا لبقية اليوم فى الفندق نراقب البشر فى تلذذ ونثرثر ونستمتع
برؤية البحر .. والتجول في أرجاء المكان ..
فى
اليوم التالى قصدنا غران كنارى نسير معاً بالممشى المتاخم للشاطئ .. كان الجو
ممتعاً وجلسنا بأحد المطاعم المطلة على المحيط مباشرة ..
وتحول
الأمر إلى مهزلة .. هذا المطعم يقدم الأسماك وأنا لا أحبها ..
وهشام
مصمم أن أتذوقها ..
يا
ويحى أكره الرائحة الزفرة المنبعثة منها ..
كان
النادل يتابع المناقشة حامية الوطيس بيننا وينتظر انتصار احدنا ..
وأخيراً
حصل على مبتغاه ..
وهشام
يشرح له العديد من التفاصيل الدقيقة انصرف في سرعة قبل أن يغير أحدنا رأيه .. وعاد
بأطباق عديدة وضعها أمامنا ..
امسك
هشام بقطعة ودسها فى فمى بسرعة وهو يقول :- تذوقيها أولا
كانت
شهية بالفعل ولا يوجد بها أي رائحة
هشام
:- هذه يخنة الأسماك ..
وأخذ
يشرح طريقتها بينما ألتهم طبقى وأنهيه تماماً .. وأطلب طبق آخر وأنا أبتسم للنادل
وهو يكاد يسقط ضحكاً وأنا أبرر: ربما طريقة طبخها .. أو الأسماك المستخدمة فيها
هكذا
كنت أبرر له سبب طلبى للمزيد وهشام يضحك فى انتصار ..
على
الشاطئ هشام يستعد للسباحة ..
هو
مصمم أننى أجيد السباحة .. مصمم أن أسبح معه .. ولكنى أملك الفوبيا خاصتى منذ
حادثة كدت أغرق فيها فى الإسكندرية لولا أنقذنى أحمد فى اللحظات الأخيرة ..
من
وقتها وأنا أستمتع بالبحر فقط من الشاطئ لا أكثر .. لا أستطيع ..
حملني
بين يديه وهو يعدو نحو الماء .. وأنا أصرخ فى ذعر حقيقى ..
قذف
بى فى أقرب موجة فى مرح ..
واختفت
أنفاسى .. الماء يتدفق الى فمى بملوحته .. لم تكن المياه تتجاوز الشبرين ..
لكن
يكفينى شبر واحد لأغرق تماماً لأننى منذ حملنى كنت غارقة فى خوفى لذا تعلقت به بكل
قوتي وأنا أخمشه بأظافري في قوة لكن جسده المبلل جعل يدى تنزلق وانزلق معها الى
الهاوية ..
الفوبيا
جدار من الخوف تصنعه النفس البشرية وتعيش تحت رحمته ..
وحين
تريد أن تهرب قد يلجأ العقل للتوقف .. إغماءه صغيرة تكفى ..
جسدى
مسجى على الرمال وهو الى جانبى يحاول إنعاش رئتاي بقبلة الحياة .. سعلت عندما تدفق
الهواء أخيراً إلى رئتى .. كان ينظر فى وجهى والخوف يقطر من ملامحه .. يكاد يبكى
لولا الماء الذى يقطر من وجهه لقلت أنها دموع .. يتحسس وجهى فى جنون وهو يعتذر عما
سببه لى ..
كان
الموت وشيكاً أو هكذا ظننت بسبب هذه الفوبيا اللعينة التى تمنعنى من الحياة ككل
البشر ..
عدنا
الى الفندق على الفور لأستريح .. لم يكن يصدق ما حدث كان مصدوماً .. لكن لكل منا
خوفه المجهول الذى يظهر فى وقته من مكمنه داخل النفس .. ينطلق دفعة واحدة .. ولكل
منا طريقته فى مواجهته أو الاختباء منه .. الصراخ .. الهلع .. الصمت الملجم ..
الإغماء ..
جلسنا
فى الشرفة يستمع لقصة غرقى وأنا صغيرة .. هذه الحادثة أحدثت هزة داخله ..
شعر
بالتباين الفج ربما بينى وبينها .. كان مصدوماً مع مزيج من الشفقة على حالتى
النفسية المزرية
كنت
أرى فى عينيه الحيرة ولا أملك ما يبددها ..
عفوا
يا حبيبى لم ينتصر أى منا هذه المرة ..
أنا
وأنت مررنا بتجربة مريرة وسيأتى وقت ما نتجاوزها فيه ..
***********
أطياف تنتظر العودة
وأخيراً
عدنا إلى القاهرة بعد عشرون يوماً من السعادة من العشق ..
عشرون
يوماً هى أيامى التى لم تخلو من ذكرى رواء الراسخة فى أعماقه .. ومن الفوبيا خاصتي
ومن تضارب المشاعر الذي أعيش به ..
وبدأت
حياتنا الجديدة سوياً وصلنا للفيلا الجميلة بأحد الكمبوندات ( التجمعات السكنية
الفاخرة ) فى القاهرة الجديدة ..
كانت
فيلا راقية أثاثها أنيق بكل ما فى الكلمة من معنى كل قطعة منتقاة بعناية .. شعرت
بشيء غريب فور دخولي .. شعرت بها .. أنا أدلف لمملكتها .. منزلها .. أثاثها ..
غرفتها .. كنت أراها فى كل التفاصيل الصغيرة من حولى ..
فى
الغرفة رأيتها فور دخولي .. كانت في استقبالنا فى الفراش ممددة وقد أسندت رأسها
للخلف وهي تراقبنا فى صمت
كانت
هذه المرة الأولى التي أراها بوضوح بأم عينى وليس من خلال كاميرا وأنا بكامل وعيي ولست
أحلم ..
أنا
متيقظة وعينى متعلقة بها وعقلى يؤكد ..
إنها
ليست حقيقة هى مجرد وهم .. لكننى لا أتحمل العيش مع هذا الوهم .. لكنها هذه المرة
ليست وهماً ..
وعلى
الفور طلبت منه الانتقال لغرفة أخرى غير هذه الغرفة
كان
الخوف يقتحم كل نقطة مظلمة فى عقلى كل مخيلة فاسدة مهترئة فى نفسى .. لا أملك سوى
هذا .. رمقتنى بنظرة ضيق .. بادلتها بنظرة ملتاعة خائفة وهربت .. لن أستطيع
الاستمرار فى هذا الجنون ..
التصقت
به ونظرت نحوه وأنا أحاول تجاهلها .. وتعلقت يداى بعنقه وأنا أتوسل فى همس : حبيبي هل
يمكننا الإقامة فى غرفة أخرى ؟؟ هذه الغرفة لا تعجبنى.
هشام
: لكنها أكبر غرف الفيلا .. الغرف الأخرى مساحتها أقل منها ..
:-
لا يهم يا حبيبى .. أى غرفة لا تهمنى مساحتها ..
:-
لكن الغرف الأخرى لا تحتوى على أثاث يصلح ليكون مكان إقامتنا ..
:-
فليكن نشتري أثاث إذا لم تمانع ..
:-
هل الغرفة لا تعجبك حقاً ؟؟
وبخبث
اضطررت له :- إنها جميلة لكننى أشعر بعدم الراحة فيها .. ما رأيك أن نذهب غداً
لشراء غرفة جديدة ونضعها فى أى غرفة أخرى ونترك هذه الغرفة كما هى .. من المؤكد أن
لك ذكرياتك الخاصة فيها ... ما رأيك ؟؟
شعرت
أن فكرتى قد راقت له فهو لن يتخلى عن الغرفة أعرف هذا وكذا سيرضيني بمجرد غرفة
أخرى ..
:-
فليكن هيا لتشاهدي باقى الغرف وتختارى أى واحدة ستكون مملكتك ..
دلفنا
نتفقد الغرف واخترت إحداها .. كانت غرفة لا تحتوى على أثاث سوى سرير وطاولة
ومقعدين حولها ..
:-
هذه الغرفة جميلة وبها حمام خاص أيضاً ما رأيك ؟؟
:-
هذه الغرفة معدة للضيوف .. إذا كانت تعجبك فلا بأس ..
:-
تعجبنى جداً حتى أننا سنقيم فيها من هذه اللحظة .. ونبيت ليلتنا هنا ..
وألقيت
بجسدي المتعب على الفراش ..
أخيراً
مرت اللحظة التى كنت أخشاها منذ قررنا العودة ..
كنت
أبتسم فى انتصار .. أما هو فيقف حائراً وسط الغرفة يتطلع للجدران .. ذهب ليبدل
ملابسه فى الغرفة الأخرى ويحضر حقيبتى ..
غفوت
قليلاً بكامل ملابسي فالرحلة كانت مرهقة ..
لم
تستمر غفوتى سوى نصف ساعة لكنه لم يعود ..
ذهبت
أتفقده .. كان يجلس على طرف الفراش ويمسك بين يديه ثوبها ويحتضنه فى وله حتى أنه
لم يشعر بى أدخل الى الغرفة ..
فعدت
أدراجي ونار الغيرة تنهش أحشائى .. يبدو أن الأمر ليس بالسهولة التى تصورتها ..
بعد
قليل عاد يحمل حقيبتي .. طلبت منه أن أذهب منزل أسرتى لهذه الليلة وأعود غداً ..
ضايقنى
أنه رحب بالفكرة وكأنما يريد التخلص منى ..
لقد
عاد لها ويبدو أنه يشتاق لها ويريد أن ينفرد بنفسه معها وذكرياتهم ..
الأحضان والقبلات الشوق والسعادة لعودتي .. كان
هذا هو الجو الحافل فى منزل أسرتى الذي بدل حالى بمجرد وجودى وسطهم وجعلنى فى حالة
من السعادة ..
أحمد يجذب الحقيبة من يدى وهو يخرج محتوياتها
ويحذر من نسيان شيء .. أخذنا نتجاذب الهدايا ..
أمسك بعض الهدايا منه فهى تخص والدى .. ووالدتى ..
استمرت المناوشات والضحكات لساعات حتى انتصف الليل
وأنا أقص تفاصيل رحلتى وبالطبع بعد اقتطاع الأوقات السيئة منها حتى لا تشعر أسرتي
بثمة معاناة أعيش فيها ..
المعاناة الممزوجة بالسعادة والمتعة ..
لا أدرى هذه التركيبة المعقدة التى وضعت نفسى فيها
لكنى كنت أذكر نفسى دوماً .. كنت تعرفين وهذا كان اختيارك ..
وأخيراً عدت لغرفتي لكم اشتقت لها نمت وكأننى كنت
فى شوق للنوم فى سريرى .. نمت فى سكون مفرط لساعات وساعات ..
عند الظهيرة وجدت هشام يوقظنى ويطلب منى تبديل
ثيابى سريعاً .. ولأنى قد أعتدت هذا فلم أناقشه .. لكن ما فوجئت به كونه يطلب من
الجميع الاستعداد للخروج ..
الكل فى دهشة يريد أن يعرف السبب .. وهو غامض لا
يصرح ..
فى السيارة قطعنا الطريق حتى وصلنا الى الوجهة
التى لا يعرفها سواه .. مبنى فخم جديد كلياً ..
وقفنا أمامه وطلب من الجميع الترجل من السيارة ..
سألته : الى أين نحن ذاهبون ؟؟
أشار بيده نحو المبنى : هذا مقر عملك الجديد ..
وابتسم وهو يتابع .. لتتأكدى أن كلام العرافة كله كذب .. هل تذكرين العرافة ..
الجميع لا يفهم شي .. النظرات كلها حيرة وعدم فهم
..
طلب منا أن نتبعه الى الداخل ..
كان عصام فى استقبالنا رحب بنا بابتسامة تحمل
قدراً من مكر العارف بالمفاجأة ..
سأله هشام : كم تبقى على موعد التسليم ؟؟
عصام : ثلاثة أشهربالتمام وسيكون كل شيء جاهز ..
ما يؤخرنا الأجهزة التي طلبنا استيرادها ..
هشام : لا عليك سأتولى هذا الأمر واستعجلهم قدر
الأمكان ..
نظر نحوى يراقب ملامح وجهى .. الذى أرتسمت عليه
ملامح البلاهة ربما الترقب ربما .. علامات كلها تنم عن عدم الفهم
نظر هشام الى عينى مباشرة وابتسامة ترتسم على وجهه
وهو ينظر إلى : هذه المستشفى لك يا حبيبتى .. بمجرد الانتهاء من التجهيزات يقع على
عاتقك مسؤوليتها .. ستكونين مديرتها ..
جميع من حولى يهنئني .. أما أنا فقد كنت في حالة
من الذهول وعدم التصديق كلياً .. مستشفى .. لي أنا .. هذا لم يكن فى أبعد أحلامى
.. فى أقصى خيالاتى .. هذا .. هذا كثير أكثر مما أستحق .. أكثر مما أتحمل ..
وتعلقت برقبته أمطره بوابل من القبل والأحضان دون
وعى .. وكأننا وحدنا تماماً فقد نسيت كل ما حولى وكل من حولى .. كنت أضمه بقوة وكدت
أن أغفو في أحضانه .. لكننى أفقت والابتسامات والضحكات تحيطنى من كل صوب والعيون تمعن
النظر .. أبى رفع أصبعه يدور به في الهواء ويتمتم بالرقية .. أمى الدموع تنهمر من
عينها عادة النساء في هذه المواقف ..
أطلقت العنان لتصرفاتي الطفولية .. عدوت وسط
الممرات والجميع يحاول اللحاق بى .. أتفقد الغرف .. كل شيء مثالي .. أتفقد المعمل
.. غرف العمليات .. غرف الأشعة .. كنت أعرفها من خلال اللافتات المعلقة على
الأبواب .. لا أصدق ما أراه .. التصميم متقن .. لقد استعانوا بأفضل شركة فى هذا
التخصص بالفعل .. كان عصام بالطبع هو من
يشرح التفاصيل لأنه من أشرف عليها من خلال شركتهم التى تعمل فى مجال المقاولات
والعقارات والمنتجعات السياحية .. والآن أصبح لى حلم جديد بفضله ..
وأخذ يتردد داخلى سؤال واحد لا أجد له إجابة :
ماذا أستطيع أنا أن أقدم له ؟؟
هشام قدم لي كل شيء .. العشق .. الحياة .. المستقبل
.. العمل .. كل شيء .. وأنا عاجزة .. ما الذي أملكه لأهبه لك يا حبيبى يا عشقى
الأبدى ؟؟
ولم أكن أملك الأجابة بتاتاً .. فأنا لا أملك شئ
فى فيلا والد هشام كان الاحتفال بالمناسبة السعيدة
.. الضحكات الحديث المرح وخصوصاً مع وجود أحمد من المستحيل تواجده بمكان ولا
مناسبة إلا وتحولت لملهاة حقيقية بخفة ظله ونكاته .. يوم آخر من السعادة .. سعادة
تضع على عاتقي الكثير من الأعباء والمسؤوليات .. كانت أمسية رائعة .
والسؤال ما زال يطرح نفسه داخلى فى إلحاح : ماذا
سأقدم له مقابل كل هذه السعادة ؟؟
فى مساء اليوم التالى ذهبنا إلى أحدى شركات الأثاث
.. كنت أظننا نتوجه الى مكان ما كعادته .. لكنه عرج عليها وتوقف أمامها.. يبدو أنه
يستمتع بصنع المفاجآت .. تسمرت فى السيارة .. ضميرى يؤنبنى
:- حبيبى إذا كان أمر الغرفة يضايقك .. دعنا من
الأمر فى النهاية ما دمت معى فلا يهم أي شيء .. كل ما أريده هو أنت فقط .. وقد
قدمت لى الكثير السعادة والحب كل شيء .. ولا أملك ما أقدمه لك ب ..
قاطعنى مبتسما :- بالعكس هذا من حقك .. سامحيني
أني أغفلت هذا الحق من البداية ..
:- صدقنى سأكون سعيدة على الوضع الذى ستكون فيه
سعيداً مهما كان الأمر
:- هيا لا تعطى الأمر أكثر مما ينبغى .. اختارى
شيئاً على ذوقك
وسط المعروضات كنت حائرة .. أنا لم أتعرض لاختبار
من هذا النوع ..
اختيار شيء ما ولو بسيط يجعلني أقع فى دوامة من
الحيرة دائماً ..
كانت أمى تساعدنى دوماً عند شراء الملابس أو أحد
الزميلات من باب المصادفة فقط .. وكان لا بد أن أعترف له فى هذه اللحظة تحديداً ..
تنوع المعروضات وكثرتها أصاب عقلى بالشلل ..
:- حبيبى ما رأيك أن تختار أنت الغرفة التى تروق
لك ..
:- اختارى ما يحلو لك ..
ابتسمت وصرحت له بالحقيقة : أنا لا أجيد فن
الاختيار .. أرجوك اختر ما يروق لك وتريحني من هذه الحيرة والتشتت .. حتى ملابسى
أمى من كانت تساعدنى فى اختيارها ..
ضحك وربت على وجهى في رقة
درنا فى أرجاء المكان نتفقده وأخيراً وقع اختياره
على غرفة رائعة .. عيونه الجميلة ترى الجمال وتقدره فيما حولها ..
لم أكن لأختار شيئاً بهذا الجمال .. وبفرحة وافقت
على الفور على اختياره ..
كان الى جواري عندما نمت للمرة الأولى فى الغرفة
المنزوية بأثاثها القديم التى آثرت أن تكون بعيدة عن غرفتها ..
لكن بسبب عدم اعتيادى على المكان استيقظت أثناء
الليل ولم أجده الى جوارى .. تملكنى الخوف قليلاً فأنا ما زلت لم أعتاد حياتى الجديدة
ومكانى الجديد .. قمت أبحث عنه وكانت غرفتها مضاءة ..
لقد كان فى غرفتها حيث توقعت .. يرقد على فراشها
ويكلمها فى هيام .. رأيته من الفتحة الضيقة من الباب الذى فتحته بهدوء ..
أسرعت وعدت نحو غرفتي وأنا أحدث نفسي .. سأتحمل من
أجله .. فليحبها قدر ما شاء ما دام هذا يسعده .. ربما هذا ما أستطيع أن أقدمه له
الآن ..
عدت إلى فراشي وانتظرته وكل ما يشغل تفكيرى كيف
أقدم له السعادة التى تنسيه كل هذا .. عاد بعد وقت طويل ووجدنى أجلس فى الفراش .. ارتبك
قليلاً وهو يسألنى :- متى استيقظت ؟؟
:- للتو ..
هشام بارتباك :- لقد كنت أرتب بعض الأشياء .. و
قاطعته :- لا عليك يا حبيبى هيا لننام ..
دلف إلى الفراش .. ضممت رأسه إلى صدرى واحتضنته :-
هل أحكي لك قصة قبل النوم ..
ابتسم فى عذوبة : أرجوك .. ولتكن قصة سعيدة اتفقنا
..
وبدأت أسرد القصة الوحيدة التى أعرفها .. قصة
سندريلا التى كانت تحكيها لى أمى وأنا صغيرة .. لكننى كنت سندريلا هذه القصة وكان
هو أميرها .. حتى غفى بين أحضاني وشعرت بالسعادة ..
وقررت وقتها أن أكون شهرزاد وأن أقرأ قصص ألف ليلة
وليلة لأقص له كل ليلة قصة جديدة .. ربما يقربه هذا منى ..
فى الظهيرة كانت الفيلا تعج بعمال نقل الأثاث
وتنسيقه .. كنا نشرف على اختيار ترتيب الغرفة سوياً .. عندما انتهوا
بدأت في ترتيب ملابسى فى الدولاب وهو يساعدنى فى
إفراغ الحقائب التى أحضرها أحمد منذ قليل وانصرف بعد أن أعطاني مغلف مغلق يحوى
كتاب ألف ليلة وليلة الذى طلبته منه وهو يطلق دعابته : خذى يا شهرزاد .. حتى لا
يقتلك شهريار .. وظل يردد كلمات الأغنية فى تمايل وأنا أدفعه فى مرح حتى يكف عن
دعابته .. الجيد أن هشام حينها كان يتابع عمال الأثاث وهم ينقلونها للغرفة فلم
يلاحظ ..
كانت أثقل الحقائب هي كتبي ومراجعي التي احتللت
بها غرفة مكتبه .. فقد تنازل لى عنها راضياً .. وأفرغ ركن في مكتبته الزاخرة
بالكتب .. وانهمك كلينا في تنسيقها .. وأخيراً انتهينا ..
فى المطبخ كنت أحاول إعداد الطعام وحدى .. لا لست
وحدي .. هى هنا أشعر بها تحوم حولى ..
حين انتهيت كان مذاق الطعام سيئاً .. ملح زائد ..
وأنا واثقة أنى لم أضع ذرة ملح فيه وأنا أعده .. يبدو أنها من فعل ذلك .. هي من
تحاول دفعى للجنون
كان يتحدث فى الهاتف عندما دخلت الغرفة .. انتظرت
حتى أنهى المحادثة
: - حبيبى مفاجأة ... ابتسمت ببلاهة : أطلب لنا
طعام سريعاً فالجوع يقتلنى ..
بابتسامة شامتة مداعبة :- يبدو أنك لا تجيدين
الطهى يا دكتورة ..
:- أمرك لله .. لقد أكثرت من الملح حتى فسد الطعم
..
:- لا عليك من الغد ستأتى مدبرة المنزل لتقوم بمثل
هذه الأمور .. وبطبيعة الحال عندما يبدأ العمل بالمستشفى لن تتمكني من القيام
بأعمال المنزل
:- هل لى أن أسألك سؤالاً ؟؟
:- اسألى كما يحلو لك ..
:- هل كانت تقوم بأعمال المنزل ؟؟
:- من ؟؟
أطرق وقد بدا لى أن السؤال أثار شجنه : هى كانت
تقوم بكل شيء فى المنزل .. فلم تكن تعمل .. وبالطبع كانت تعاونها مدبرة المنزل وهى
ستأتى غداً ..
:- هل يضايقك أننى أعمل ؟؟
تكلم بأريحية أكثر :- بالطبع لا .. وأنت تعرفين
هذا .. فقط هى كانت لا تحب العمل كانت تحب الراحة وتفضلها أكثر من أى شيء ..
أما أنت .. فطبيبة .. ولا يعقل بحال أن تتخلى عن
هذا .. أنا أفهم هذا جيداً وأقدره .. لا يشغلك الأمر كثيراً .. كما أننى سأعود
للعمل من الغد ..
- هكذا سريعاً و تتركنى لوحدى هنا ..
- عبء الشركة ثقيل على عصام وقد تركته يتحمل
كثيراً هو ووالدى ولوقت طويل خلال فترة سفرى ومن قبلها فترة مرضى .. والعمل
يحتاجنى كثيراً .. هذه المكالمة عندما دخلتى كانت من والدى وكان يطلب مني العودة
ومتابعة الأعمال ..
كنت أتفهم الأمر .. امسك الهاتف يتصل لطلب الطعام
وذهبت أعد لنا القهوة ريثما يحين الطعام ..
عندما دخلت المطبخ همست فى توسل : أرجوك لا تفسدي
القهوة ..
كم غريب أن تفعل شيء يخالف معتقداتك ..
لكن الغرابة تفرض نفسها على حياتى بشدة .. ولا أجد
بداً من التعامل معها بنفس أسلوبها حتى أستطيع المواصلة .. أو ربما أكون قد جننت
حقاً ووصلت هى لما تريد .
فى المساء خرج هشام للعمل .. وظللت بغرفة المكتب
اقرأ قصة الليلة التى سأرويها له عندما يعود ..
طبيبة تستخدم قصص ألف ليلة لتحصل على حب زوجها
وطرد طيف يحوم فى حياتها .. سيكون عنوان غريب حقاً .. سمعت ضجيج فى الأعلى .. شيء
ما وقع مصدراً جلبة .. كنت أصعد السلالم بترقب حذر .. كان باب غرفتها موارباً ..
فى فضول دسست رأسي أنظر داخل الغرفة .. شيء ما تحرك سريعاً لم أتبينه .. سحبت وجهي
من سدة الباب فى سرعة وخوف فارتطم رأسي في الإطار الخشبي ..
وظهرت صانعة الجلبة .. قطة تموء أسفل قدمي مباشرة
.. لم أكن من محبي القطط .. لكنها تتمسح فى قدمى وتحوم حولها .. من أين أتت هذه
القطة وكيف دخلت ؟؟ ربما من أحد الفيلات المجاورة .. أغلقت الغرفة وذهبت الى غرفتى
وهى تتبعني .. يبدو أنها تبحث عن صحبة .. لا بأس .. فأنا أيضاً وحيدة .. جلست
بالفراش أطالع الهاتف ووثبت هى جانبى .. بعد ساعة سمعت صوت السيارة لقد عاد هشام
.. بعد لحظات دلف الى الغرفة لكنه تسمر مكانه لثوانى
:- أين وجدتها ؟؟
:- القطة ؟
هز رأسه إيجاباً
:- سمعت جلبة بالغرفة القديمة ووجدتها هناك ..
ربما هى لأحد جيراننا أو ..
قاطعني :- لا إنها قطتها .. ولا أعرف أين اختفت كل
هذه الفترة .. لم أرها منذ رحلت رواء ..
لا أعرف لما سرت قشعريرة بجسدى فور سماعى كلماته
.. وودت لو أملك الشجاعة فادفعها من جواري ..
بدل ملابسه وجلس على طرف الفراش فانطلقت القطة
نحوه وصعدت الى صدره تتمسح بوجهها فيه وتشم وجهه وكأنها تقبله وهو يربت عليها ..
لم يكن ينقصني غيرك لتشاركينى فيه أنت أيضاً لا بد
أن أتخلص منك أيضا .. أعتقد أنه لاحظ ضيقى من وجودها ..
:- هل يضايقك وجودها ؟؟
:- المشكلة أنني لا أحب القطط ..
:- لكن يبدو أنها تحبك .. فقد كانت تجلس الى جوارك
..
:- هى فرضت نفسها .. لكن لا أجرؤ على لمسها ..
فراؤها يبعث في جسدي القشعريرة .
حملها وأخرجها من الغرفة وعاد .. تنفست الصعداء
أخيراً ..
:- هيا لأحكي لك قصة الليلة ..
ضحك : لهذا أحضرت كتاب ألف ليلة ؟؟
ابتسمت فى خجل : هل رأيته .. لقد كنت سعيدة بالأمس
عندما نمت كطفل فى أحضاني .. ففكرت فى البحث عن المزيد من القصص ..
ألقى بنفسه فى أحضاني : فليكن فى الغد الليلة
لدينا ما هو أكثر من القصص .. فلنحتفل بغرفتنا الجديدة ...
كنت منزعجة وقد شعر بهذا كنت غير موجودة معه قلقة
متيقظة بل بالأحرى متحفزة ..
انتفضت ودفعته عني :- هناك صوت يأتى من خارج
الغرفة.
كان يطمئنني : إنها القطة بكل تأكيد تخمش الباب
لتدخل لا تشغلى بالك بها ..
كم أود هذا لكنه يتطلب أعصاباً من فولاذ مصقول ..
قمت وتركته في أسوأ ليالينا وأول ليالينا في
الغرفة الجديدة والفراش الجديد الوثير ..
ذهبت للحمام اغتسلت وعدت انزويت بعيداً ونمت أو
حاولت النوم ..
تركنى وذهب لغرفتها .. وانتصرت هى .. لكننى لم أكن
لأحتمل هذا الشعور وكأن شيء ما يراقبك وأنت عار تماماً .. عيون تحدق بك ولا تجد ما
يسترك منها .. كيف لي أن أستطيع أن أستمتع معه وهذه المشاعر قد علقت في عقلى وتمنعنى
من أى متعة ممكنة ..
فى الصباح كان يستعد للذهاب للعمل وقد بدا
متضايقاً جداً مؤكد مما حدث بالأمس حاولت الاعتذار له وتقبله في بساطة : لا عليك
ربما لم تألفي حياتنا الجديدة بعد ... الأيام قادمة .. لا تشغلى بالك
تضايقت أنه تقبل الأمر في بساطة .. مؤكد أنه سعيد
وقد بات في أحضانها فهذا أجمل عنده من أى شيء ويفتعل الضيق .. غيرتى تقتلنى
أعددت الفطار سريعاً .. وأثناء تناوله رن جرس الباب
.. كانت فوزية مدبرة المنزل كما عرفنى بها هشام .. قابلها بترحاب زائد .. يبدو
أنني أغار من كل شيء كان يخص رواء سابقاً .. غيرة فى أعماقى فقط لا أسمح لها أن
تطفو على صفحة وجهى حتى لا يراها ..
انصرف وتركنا .. وهى بدأت عملها على الفور ..
انطلقت تدور فى المنزل كالنحلة .. كنت أراقبها من
موضعي المنزوي في ركن البهو وأتابع قراءة كتابى السحرى ألف ليلة كانت بين الحين
والأخر ترمقني بطرف لحظها .. بعد ساعتين من العمل المتواصل أقبلت نحوى وعلى وجهها
ابتسامة : لقد أنهيت تنظيف البهو و سأصعد لتنظيف الغرف .. هل تريدين شيء ما أعده
لك ؟؟
بلطف
شكرتها : شكراً لك .. يكفى ما تقومين به من عمل .. كان الله فى عونك
انبسطت
أساريرها لا أعرف السبب ربما كانت تظن اني من النوع المتسلط المتعجرف المتعالي
بسبب قلة كلامى كما يظن بى أغلب من يعرفنى .. لست من هواة الثرثرة .. رغم أنى
أصبحت أثرثر أكثر من المعتاد بمراحل عدة .. غبت بين صفحات كتابى مرة أخرى .. لكن
صرخة من الدور العلوى حفزت جوارحي وهرعت لأرى ما الأمر .. كانت باب غرفة رواء
مفتوحاً على مصرعيه وفوزية وقد ارتسمت على وجهها إمارات الرعب ..
أنا
في خوف :- لماذا تصرخين هكذا ؟؟
وكأنما
أفاقت .. وكأنما وجدت النجدة .. جاءت مسرعة نحوي مذعورة وهي تردد: لقد رأيتها كانت
هنا .. صدقينى ..
كنت
أقف خارج الغرفة فقد قررت تجنب هذه الغرفة مهما يكن .. هززت رأسي في تفهم ..
تعجبت
فوزية من ردة فعلى هذه : هل رأيتها أنت أيضاً يا دكتورة ؟؟
:-
لا عليك هذا فقط وهم .. لأنك وبكل تأكيد أعتدتي على وجودها هنا تحديداً .. هذا
التفسير العلمى كما ترين لا شيء فى الغرفة ..
وأشرت
بيدي نحو الغرفة ورأيتها فى سريرها ممددة تراقب ..
تسمرت
عيناي للحظات ..
والحمد
لله لم تلحظ فوزية ذلك : كما ترين لا شيء !!
نظرت
تتفحص الغرفة وهزت رأسها وانصرفت ..
نظرت
من فورى نحو السرير مازالت هناك ..
تبتسم
فى وداعة غريبة ..
هذا
الطيف يظهر وقتما يشاء ولمن يشاء على ما يبدو هذا ما تبادر لذهني .. واتسعت
ابتسامتها وكأنها تعرف فيما أفكر بل تقًر به أيضاً ..
بادلتها
الابتسام وأغلقت الباب وعدت الى حيث كنت ..
سأقصد
الطبيب النفسى ليرى ماذا سأصنع فى أوهامى التى تجاوزت المعقول .. لا بد من ذلك ..
هذا هو الحل الوحيد ..
عاد
هشام فى المساء وهو منهك من العمل ..
تناولنا
الطعام سوياً وآوى الى الفراش وغط فى نوم عميق ..
محبطة
عدت لغرفة المكتب .. لقد انتهى شهر العسل على ما يبدو وبدأت الحياة الزوجية ..
جلست
أتطلع فى الكتب ربما أجد ما أقرؤه .. أثار حفيظتى عنوان كتاب ,الخلود البيولوجي,
للكاتب حسن الخاطر ربما جذبتنى كلمة البيولوجى وجعلتنى أجلس أطالع صفحاته فى فضول
كنت
لم أبلغ بعد مقدمته حتى دخلت فوزية تسألنى إن كنت أرغب فى شيء قبل أن تنام .. طلبت
منها القهوة .. وعدت الى الكتاب لكنها لم تنصرف نظرت نحوها وشعرت أنها تريد قول شيء
ما : هل هناك شيء ما ؟؟
هزت
رأسها بالإيجاب وهى تشير للكتاب في يدى : هذا الكتاب كانت تقرأه سيدتى قبل أن
تسافر آخر مرة .
حتى
الكتب أصبحت تفرضها على عقلى ..
ألقيت
الكتاب جانباً رغم أن بدايته تروق لى ..
صعدت
الى غرفتي وجلست فى الفراش أطالع الهاتف ومواقع التواصل على غير عادتى حتى نمت ..
ذات
النوم القلق المؤذي للنفس ..
فى
الظهيرة فوزية توقظنى لوجود ضيوف .. كانت أمى وأحمد .. سيسافر أحمد فى الغد لعمله
ويريد أن يقضى يومه معى ..
كان
هذا بمثابة النجدة لى من الملل ومن كثير من الأشياء .. كان أحمد هو الإنسان الوحيد
الذي أستطيع الحديث معه وكأني أتحدث لنفسى .. ما إن انهمكت أمى تعاون فوزية فى
إعداد الطعام كانت تصر على هذا بشدة ولا أدرى السبب لكنى تركتها وما تحب ..
-
احمد أنها تطاردنى .. رواء تنغص على حياتى .. أنا أراها منذ خطوت هنا .. أراها بأم
عينى .. ماذا أفعل أكاد أجن ..
أطلق
ضحكة ساخرة :- أنت جننت بالفعل على ما يبدو .. لا يعقل ما تقوليه .. هذا بالتأكيد
مجرد وهم .. ربما من تأثير الأحداث المتسارعة عليك .. أو أن عقلك الباطن يرفض
وجودك فى المنزل الذى كان لها فهيئ لك كل هذا ..
كنت
افكر فى كلامه كان يحمل الكثير من الحقيقة .. وكثير من التعقل :- لكن فوزية رأتها
أيضاً .. وهو كان راقداً الى جوارها ذات ليلة وكان يكلمها ..
ما
إن نطقت هذه الكلمات حتى انطلق كعادته يضحك ويلقى دعابته : من الجيد أنه لم يكن
يخونك معها ويفعل ما هو أكثر من الكلام …
فى
تبرم من أسلوبه : كف عن ضحكك .. أنا أخبرك بما يحدث فعلاً .. فلا تسخر منى ..
وهو
يحاول كتم ضحكاته : وماذا أفعل وكلامك عار من المنطق .. أنت رأيت هشام يرقد فى
سريرها وغيرتك من الموقف هى ما أوهمك بهذا ..
أما
فوزية هذه فربما هى معتوهة مثلك ..
وأنطلق
يقهقه وأنا حانقة عليه .. أكاد أبكى .. لاحظ احتقان وجهى فلطف حديثه وهو يحاول منع
نفسه من الضحك : لم أكن أتخيل أن يكون اليوم معك ممتعاً ومرحاً إلى هذا الحد .. و
فجأة
سقط شيء ما بالدور العلوى محدثاً دوياً سألني أحمد وهو يتحرك نحو الأعلى :
هل هناك أحد بالدور العلوى ؟؟
تبعته
وأنا أخبره : لا أحد ... هيا لأريك يبدو أنها قررت التعرف بك .. فلنرى من سيضحك
الآن ؟؟
تفقدنا
الممر بين الغرف لا شيء .. قصدت غرفتها مباشرة .. وبالفعل كانت إحدى المزهريات على
أرضية الغرفة والقطة اللعينة ممددة في السرير وما إن رأتني حتى أقبلت تمارس لعبة
حك نفسها بساقى ..
ورواء
لا أثر لها ..
وهو
يضحك ويعبث بيده فى وجهى ويصدر أصواتاً مستفزة : عووا عووا ...
أمسكت
ذراعه لأقضِمه بأسناني فأنطلق الى داخل الغرفة التى لن أدخلها بالطبع وهو
يسير يولينى وجهه ويديه الى جواره تشير بما يعنى أننى مجنونة .. كان يسير إلى
الداخل بظهره .. ويبدو أنه تعثر بشئ ما فوقع وقام سريعاً .. قفز للاتجاه المعاكس يفتعل
معركة .. وقد استغربت الأمر .. لكنه أخذ يدور فى الغرفة يفتح الأدراج وأبواب خزانة
الملابس وهو ينادى عليها بسخرية : رواء .. رواء .. إنتِ فين يا رواء
ويكرره
فى إلحاح بذات طريقة الممثل حسين صدقى فى فيلم واإسلاماه ..
كنت
أتمنى ظهورها الى أقصى حد حتى أثبت نظريتى ..
وحتى
ينال أحمد شيئاً من الهلع يشفى غيظى منه .. لكنها لم تظهر فى النهاية .. وأصبحت أنا
فى نظره المجنونة التى تسلى عليها إلى آخر اليوم ..
كنت
حانقة عليها أكثر من حنقى عليه فهى بالطبع تتعمد إظهاري بمظهر المجنونة المتوهمة
..
وهدمت
فى داخلى فكرة الذهاب لطبيب نفسى بعد ما فعله أحمد بى .. إن كان هو شقيقي وجعلنى
مسخته طوال اليوم فماذا ستكون ردة فعل الطبيب النفسى من المؤكد أنه سيحيلني الى مستشفى
الأمراض العقلية انصرفوا بعدما يأسوا من
عودة هشام
***************
أضواء
الشمال
لأيام
وأنا في صراع نفسى بين الحقيقة والوهم .. بين الطيف وبين الهلوسة البصرية .. هي
تقصد بكل تأكيد أن تصيبنى بالجنون ... أصبح للحياة روتين ممل فأنا لست ممن يعتادون
الجلوس دون عمل .. حتى القراءة أصبحت عازفة عنها .. وهشام منشغل في عمله .. يبدو
أن فترة إبتعاده قد كدست كم هائل من العمل على عاتقه .. يأتي مساءاً مرهقاً ويأوى
للفراش .. أو في خلسة يذهب الى غرفتها .. كنت أعرف وأشعر به لكننى قررت تركه يتصرف
بحرية .. ربما يكون سعيداً ..
ظللت
وحدى بالفيللا الفارغة إلا منى ومن فوزية
طلبت
منها إعداد قدحين من القهوة سريعاً ..
تعجبت
فوزية : لِمن القدح الثانى ؟؟
أجبتها
ببساطة :- لك بكل تأكيد .. فلتأتى لنتكلم سوياً قليلاً حتى أتعرف عليك أكثر .. فقد
أصابنى الملل من وجودى وحدى طوال النهار والليل .
ذهبت
فوزية في سرعة لإعداد القهوة .. وجلست انتظرها .. لمن هم مثلى حياتهم مليئة بالعمل
مجرد الجلوس دون عمل شيء يصيبنا بالكثير من الملل
عادت
فوزية تحمل اقداح القهوة : تفضلى ..
وناولتنى
قهوتى فطلبت منها الجلوس معى ..
كانت
سيدة طيبة وتروق لى كما أنها راقت لأمى وأوصتنى بها خيراً ..
كان
هذا سبب إصرارها إذاً على مرافقتها أثناء إعدادها الطعام ..
أخذنا
نتجاذب أطراف الحديث عنها حتى تألفنى وأستطيع أن أعرف منها ما أريد معرفته عن رواء
.. ربما أجد حلاً لما أنا فيه
سألتها
في بساطة وأنا لا أنظر إليها : فوزية فلتقصى لى ما تعرفيه عن رواء وعن حياتك معها
..
وصدقونى
فوجئت بما يمكن لمن هم فى مثل عملها أن يعرفوه ..
إنهم
يعرفون كل صغيرة وكبيرة كل شاردة وواردة ..
ولهم
ذاكرة فولاذية ..
والغريب
أنها توصلت لعمل تقييم ومقارنة مبدأيه أيضاً بينى وبينها وهذا كان مثير لحد كبير
ولم أقاطعها بتاتاً تركتها تتكلم كيفما يحلو لها ..
فوزية
:- كانت السيدة رواء طيبة القلب .. لكنك أكثر طيبة منها يا دكتورة .. كما أن
المستوى الأسرى بينكما مختلف .. كما أن التربية على ما أعتقد مختلفة بشكل كبير ..
هى والدتها كانت متوفاة منذ صغرها و تربت في كنف زوجة والدها أمرأة متغطرسة ينفر
منها الشيطان ذاته .. أبقى الله لك والدتك على رأسك ما شاء الله من أطيب البشر
وأتقاهم ودودة ومتواضعة توجه بلا تأنيب وتساعد بلا طلب ..
أما
أسرة السيدة رواء لا تجيد سوى إصدار الأوامر لا غير .. والعجرفة الفارغة .. مهما
كان حجم العمل على عاتقي .. لا يكفون عن الطلبات طوال فترة تواجدهم ..
وهى
مثلهم أيضاً كانت لا تكف رحمها الله عن إقامة الحفلات هنا في الفيللا أو السهر
بالخارج لأوقات متأخرة .. أو السفر خارج البلاد أو السفر للمنتجع الذى تمتلكه
عائلة هشام بيه .. وأغلب الوقت يكونان بالأسكندرية وأكون معهم كان لا يحلو لهم
الذهاب الا في عز البرد .. وأنا يتكسر عظمى وتتحلحل مفاصلى
وبالمناسبة
يا دكتورة في الفترة الأخيرة كانت لا تبرح السيدة رواء غرفتها ما دامت بالمنزل .. كل
هذا تغير منذ علمت أنها مريضة
أنا
بدهشة : مريضة .. أي نوع من الأمراض ؟؟؟
فوزية
: لا أعرف يا دكتورة لكنها لم تخبر السيد هشام بهذا المرض
بدهشة
اكثر : لماذا ؟؟ ما هذا الغموض هل أنت متأكدة مما تقولين ؟؟؟
فوزية
: والله يا دكتورة
واسترسلت
: فى أحد الأيام عادت السيدة رواء من الخارج ووجهها مهموم .. دخلت وألقت بعض
الأوراق من يدها وأخذت تبكى بشدة .. بكاء يخلع القلب ..
حاولت
مواساتها وأنا لا أفهم شيء وعندما ألححت عليها في السؤال انهارت في نوبة من البكاء
وأخبرتني وسط دموعها أنها مصابة بمرض ميؤس الشفاء منه وربما تموت فى أى لحظة .. ليلتها
ظللت أبكى شفقة عليها ...
انسابت
دموع فوزية في غزارة ..
لكن
الفضول ينهشنى : أكملى يا فوزية
تابعت
: في المساء استدعتنى .. وطلبت منى كتمان الأمر تماماً عن الجميع وبشكل خاص عن
السيد هشام .. قالت أنها ستراجع الأطباء فى خارج البلاد عندما تسافر وسترى ما
يمكنهم فعله ..
توقفت
تمسح الدموع ..
أنا
: أكملى يا فوزية ماذا حدث بعد ذلك ؟؟
تابعت
: بعد هذه الليلة تبدلت السيدة رواء تماما .. كنت قريبة منها جداً أواسيها
وأراعيها ..
ولأول
مرة تخبرنى بأمور عديدة عن نفسها وحياتها .. عن يتيمها افتقادها لحنان الأم الذى
لا تعرف شكله .. عن قسوة معاملة زوجة والده المتعجرفة والأمور البشعة التي فعلتها
بها .. أكتشفت أنسانة أخرى غير التي أعرفها .. كانت فكرتى عنها من خلال الأوامر
والسعادة التي تحياها وابتسامتها التي لا تفارق وجهها .. كانت وحيدة لا أخوة لها
غير واحد من زوجة أبيها لكنه يملك قسوة الدنيا .. كل ما يهمه ثروة والده والا
تشاركه السيدة رواء فيها بحال من الأحوال .. وللحق فقد عوضها السيد هشام عن كل هذا
العناء .. ذات مرة كانت منفعلة بسبب تصرف والدها معها فقد منح أخوها معظم ثروته
وكانت تشتكى للسيد هشام وهى تبكى فما كان منه الا أنه ضمها لحضنه وأخبرها أنها في
غنى عن هذا كله .. وبعدها بأيام أشترى لها نادى صحى وجعله بأسمها كنوع من التعويض
عليها .. وكانت سعيدة به أيما سعادة .. ولفترة قصيرة كانت تديره لكنها عادت وعزفت
عنه وأخبرته أنها لا تحسن أمور الإدارة والحسابات وضحك وقتها وهو يقول له : أرأيت كان
والدك على حق لم يرد أن يزعجك كان يريد أن يريحيك من هذا العناء لأنه يعرف أنك
كسولة .. وظلا يمرحان وهى تطارده وهو يجرى منها ويختبئ .. كنت أراقبهم من موضع خفى
واضحك منهما ... لا تخبرى سيدى هشام يا دكتورة
ابتسمت
وربت على يدها : لا تخافى ما تقوليه سيكون سر .. هيا أكملى .
..
تابعت هى فى شجن :-
كانت
تعلم أنها لا تستطيع الأنجاب وتعلم أن سيدى يخفى عنها هذا لأنه يحبها ويخشى أن
يؤذى مشاعرها وهى تخفى عنه أنها تعرف .. لكنها كانت تلح عليه أن يتزوج .. ربما
يحالفه القدر وينجب وهى على قيد الحياة وتستطيع أن ترى طفله وترى معه سعادته تكتمل
.. هكذا دون أن تخبره أنها تعرف ..
كان
فى أغلب الأحيان السيد هشام يعود متأخراً من عمله .. وهى مؤخراً أصبحت تشغل
أوقاتها بقراءة الكتب مثل الكتاب الذى كنت تمسكيه .. والتزمت بالصلاة وقراءة
القرآن .. وكانت تصوم بعض الأيام رغم مرضها .. وكانت لا تخرج من المنزل على الأطلاق
ولا تقيم حفلات ولا تحبها وانعزلت عن الناس وكنت أنيستها الوحيدة في هذه الفترة
حتى سافرت وعندما عادت توفيت حبيبتى بعدما ارتبطت بها جدا ..
وبأسى
ومن بين الدموع : ربما ما فعلته كان من حسن الخاتمة .. اللهم أحسن خاتمتنا يا رب .
كانت
الدموع تنساب من عينى فوزية
ربت
على يدها فى رقة ودموعى تنساب معها ككل أحاديث النساء
ساد
الصمت إلا من صوت النهنهات والشنشنات والبكاء
سألت
فوزية في فضول من بين دموعى :- فوزية هل
تعرفين مكان التقارير الطبية والأوراق التي تقولين أنها أحضرتها في هذه الليلة ؟؟
قامت
مسرعة الى المطبخ وعادت وبين يدها مغلف كبير
تناولته
منها وأنا أسألها : لماذا تخفينه في المطبخ ؟؟؟
فوزية
: هي طلبت منى هذا فالمطبخ هو المكان الوحيد الذى لا يذهب إليه السيد هشام .. فقد
كانت حريصة على ألا يعرف الحقيقة .
بدأت
أتفحصه بتمعن .. ولدهشتى كانت بعض التقارير صادرة عن المستشفى حيث كنت أعمل ..
كانت تعانى من فرط ضغط الدم الرئوى مما سبب انسداد الأوعية الدموية واعتلال عضلة
القلب ويبدو أنها ذهبت فى وقت متأخر جداً ..
التواريخ
على التقارير يوضح أنها ظلت تعانى كثيراً طوال شهور قبل رحيلها انسابت الدموع من
عينى دونما إرادة منى ..
لقد
كانت تعانى بشدة .. بمفردها ولم تخبر أحداً ..
كان
الدكتور مراد أحد الأطباء الذين ذهبت إليهم !!
إذاً
كان يعرفها ربما !!
لكنه
لم يكن يملك ولا أى أحد منا أن يفعل لها شيئاً .. حتى فى الخارج ..
جلست
فوزية بجوارى تربت على كتفي وأنا أبكي كلما تبحرت فى معاناتها من خلال الأوراق
وكأننى كنت أشعر بكل ما ذاقته من ألم ..
وشعرت
بحاجتى لأكون وحيدة فطلبت من فوزية بأدب أن تأخذ وقت من الراحة لنفسها .. أنصرفت
بعد أن سألتنى إن كنت أحتاج لشيئ تؤديه لى ..
هززت
رأسى أن لا وأنا شاردة
كم
أشعر بالخزى لتصرفى بهذه الوقاحة
كم
أشعر بتأنيب الضمير
أعدت
الأوراق للمغلف وصعدت لأعلى .. فتحت الباب ..
لا
ليس باب غرفتى إنما باب غرفة رواء ..
دلفت
للغرفة والدموع تنساب على وجنتي .. وأنا أتطلع في أرجاء الغرفة
من
تحت الغيوم التى تصنعها الدموع كنت أبحث عنها فى توسل ..
كنت
أتمنى لو تعود بروحها .. بجسدها .. كنت وللمرة الأولى اتمنى أن أراها أن أحتضنها
... أن أبكى معها بحرقة .. أن أخبرها أنى آسفة .. جد آسفة .
لكنها
لم تكن هناك ..
وجلست
على الفراش ابكى فى حرقة ..
انتفضت
عندما ربتت يدٌ ما على ظهري .. هل يعقل أنها ...
لا
إنه هشام .. كيف دخل الغرفة ولم أشعر به ..
لقد
كنت غارقة فى مشاعرى .. ولم يزل المغلف بيدى ..
سألنى
: لماذا تبكين ماذا حدث ؟؟
لا
إجابة فقط دموع ..
ضمني
لصدره وهو يسأل: ما هذا المغلف الذى تحملينه بيدك ؟؟ وما سبب هذا البكاء كله ؟؟
ناولته
المغلف وتابعت نوبة البكاء ..
كنت
أشعر أننى ظلمتها بطريقة ما لا أعرفها ..
ظلمتها
وظلمت نفسى حين كفرت وصدقت العرافة التى ألقت بسمومها داخل روحى ..
العرافة
التى ملأت قلبى بعداوة لا مبرر لها مع روح عاجزة من عالم البرزخ روح هائمة تبحث عن
السكينة ربما من خلالنا ..
ظلمتها
حين حاولت التخلص منها ومن كل شيء يخصها رغم أنها لم تفعل شيئاً سيئاً لى ولم تكن
تملك حتى فعل شيئ..
ظلمتها
وأنا أحاول طمس ذكراها من روحه .. ومن حياته
ظلمت
هذه اليتيمة المحرومه من الحنان ..
المريضة
المحرومة من الشفاء ..
هشام
يسألنى محاولاً الفهم :- إنها تقارير تحمل اسم رواء .. ماذا يعنى هذا ؟؟ أنا لا
أفهم شئ !!
أجبته
بأسى :- رواء كانت تعانى من مرض بالقلب وكانت تخفى عنك ..
كان
فى حالة من الذهول والصدمة :- أين وجدت هذه التقارير ؟؟؟
كان
يجب ألا أورط فوزية فى الأمر :- وجدتها فى غرفة المكتب وأنا أبحث عن كتاب
أقرأه ..
تركته
وانصرفت وأنا أحاول كبح جماح دموعى ..
تركته
ربما يريد أن يكون معها ..
ربما
تأتى عندما أرحل لتؤنسه ..
ذهبت
إلى غرفتي ..
لكنه
لحق بى على الفور قبل أن أصل إلى فراشى واحتضنني وهو يبكى .. مددت يدي أمسح دموعه
ودموعي ..
وأحاول
احتواءه بقدر ما أستطيع ..
ضممته
بكل ما أملك من قوة .. وبكينا كما لم نبك قبل
كنا
فى أمس الحاجة لمن يحتوى كلينا فى هذه اللحظة التى تعلقت روحها بروحينا فى شجن ..
كانت
هذه الليلة ربما آخر ليالى الحزن ..
آخر
ليالى اليأس ..
فرواء
بسطت رداءها الأبيض الفضفاض ولفت ذراعيها
حولنا تحتضننا في حنان بالغ ..
واختفت
أحزاننا ودموعنا ..
..
وبقى لكل مناعشقه لرواء
*************
تبدلت
حياتى بعد هذه الليلة .. أصبحت شخصاً آخر يفكر في العطاء بكل ما يملك .. لقد كنت
شخص أنانى في عشقى لهشام .. كان كل ما يهمنى هو أنا ووجودى في حياته ومحو رواء من
حياته ...
وبدأت
خطتى عندما أقترح هشام في الصباح ذهابي للمستشفى ومعاونة عصام فى العمل والتجهيزات
حتى أكون ملمة بتفاصيل كل شيء .. أخيراً .. تنفست الصعداء ..
فى
سعادة قبلت وجنته وصعدت على الفور وبدلت ملابسى وأنطلق كلينا فى طريقه ..
وصلت
المستشفى استقبلني عصام بترحاب وبدأنا نتابع سوياً التجهيزات الجارية على قدم وساق
..
كان
يتبقى القليل بعد ..
وأخبرت
عصام بخطتى وبدأنا تنفيذها سوياً
كنت
سعيدة فخورة ومعتدة بنفسى وأنا أبدأ ممارسة عملى الجديد ..
في
طريقى للمنزل مررت بالدكتور مراد فى المستشفى لأسأله عن رواء ؟؟
ولدهشتى
فهو يعرفها جيداً وعلى علاقة بوالدها أيضاً .
سألته
: لماذا لم تخبرنى طوال هذه الفترة
؟؟
دكتور مراد :-
كانت هذه رغبتها أن لا يعرف أحد حقيقة مرضها .. الجميع بلا استثناء وبالأخص أقرب
الناس لها وقد احترمت رغبتها .. فلم يكن ثمة ما أقدمه لها سوى تخفيف آلامها
بالأدوية وتحقيق رغبتها .. لذلك بعد وفاتها ووجود هشام بالمستشفى ورؤيتك وأنت
ترتبطين به بقوة كنت أخشى عليك .. لأنى أعرف جيداً حقيقة علاقتهما .. كنت أخشى
عليك يا ابنتى
هززت
رأسى بالإيجاب وابتسمت : أنا أتفهم الأمر الآن .. لا تقلق فحياتى على أفضل حال ..
أفضل مما كنت أحلم ..
استطردت
حتى لا تغلبنى دموعى وأخبرته بالمستشفى وبما يجرى من إعدادات وفوجئت أنه يعرف كل شيء
من عصام .. وأنه من رشح له الشركة التى تتولى التجهيزات أيضاً ..
ابتسمت
وأنا أودعه :- يبدو أنى أخر من يعلم في كل شيء يا دكتور مراد ..
أبتسم
وهو يعطينى بعض النصائح التى يجب أن أراعيها في إدارة العمل ..
بابتسامة
ودودة : سأزعج سيادتك كثيراً الفترة القادمة شئت أم أبيت فأنت أستاذى وبمثابة
والدى .. أنت من قلت هذا ..
أبتسم
دكتور مراد مرحباً :- بالطبع فى أى وقت ترغبين لن أخذلك وسأكون داعماً لك
دائماً . بالتوفيق يا دكتورة
شكرته
وانصرفت ..
وصلت
المنزل ولم يكن هشام موجوداً ..
صعدت
الى غرفتها ونمت ريثما يعود من عمله ..
نعم
غرفتها كنت أرغب في لقائها ولو في الحلم ..
لكن
للأسف .. لم تأتى
وهاهو
الصباح .. وهشام يرقد الى جانبى في غرفتها ..
فوزية
تطرق باب الغرفة ..
كل
هذا النوم ..
واكتشفت
أننى للمرة الأولى أنام فيها بكل هذا القدر من السكون والعمق ..
لعنت
العرافة .. ولعنت اللحظة التى رأيتها وسمعتها فيها ..
هذه
الملعونة ألقت داخلى كل هذا الخوف ..
كل
هذا الكره ..
كل
هذا التضارب ..
كل
هذا البؤس ..
تعلمت
حينها الدرس الأهم على الأطلاق ..
لا
تذهب لعراف .. لا تجالسه .. لا تصدقه .. لا تقترب منه لآلاف الأميال ..
أخيراً
عادت لى حياتى .. عادت لى سكينتى .. عادت لى سعادتى
كنا
نمارس طقوسنا الصباحية سوياً فى سعادة ورضا أنا وهشام ..
نتناول
طعام الإفطار ونحتسي قهوتنا ونحن نثرثر عن خطط يومنا الحافل بالعمل .. ولا بأس
بقليل من الرومانسية الصباحية وبعض التدليل المحبب لقلبى
ثم
ننطلق للعمل كالعادة كل فى طريقه ..
وفى
الليل نظل ملتصقين ببعضنا نشاهد التلفاز سوياً في غرفتنا وأحدنا مستلق في أحضان
الآخر .. حسب كم الأرهاق اليومى .
نطالع
الهواتف ونحن في الفراش بنفس ذات الوضعية ..
نمارس
علاقتنا الحميمية بحب وشغف وشوق
وكأن
كل ليلة هى الليلة الأولى لنا ..
نقرأ
سوياً في غرفة المكتب ونتناقش في كثير من الأمور ..
عادت
حياتى تحمل آليتها واستقرارها المحبب لى ..
آليتها
التي ربما اشتقت لها ..
كنت
سعيدة وأنا وسط كل هذا الصخب
أجراء
المقابلات مع الأطباء وأطقم التمريض ..
الترشيحات
الممكنة للأطباء الاستشاريين فى التخصصات وكان الدكتور مراد يوجهنى فيما يخص هذا
الشأن ..
واهتم
هشام بأمر الجانب الإدارى والمالى والموظفين وأجراء المقابلات معهم .. وبعد عناء
وجهد فوق المعتاد أكتمل كل شيء ..
وأخيراً
تم افتتاح المستشفى فى احتفال بهيج كرس له هشام دعاية ضخمة فى الصحف والتلفاز والأعلام
وحضره بعض رجال الدولة والسياسة والمال والأعمال ونخبة المجتمع والأهم بالنسبة لى والد
رواء وأسرتها الذين دعوتهم بنفسى . دون علم هشام بالطبع ..
حتى
لا تشعروا بالضجر منى فلا زلت سألقى كلمة فى هذا الحفل ..
ومفاجأتى
الصغيرة لهشام والتى أعرف أنها ستعجبه ..
ما هى المفاجأة ؟؟ أعرف أنكم تملون من الخطب
فليكن :- السيدات والسادة يشرفنى أن أعلن فى
نهاية كلمتى افتتاح قسم الحضانات وعيادة الأطفال وهو مجانى بالكامل صدقة
جارية للمرحومة رواء عبد القادر حسين ..وسيحمل هذا القسم أسمها .. ربما أكون أديت
جزء من فضلها علينا . أشكركم على تشريفكم حفلنا .. شكراً
الجميع
كان يصفق فى حماس ..
لكن
بعض الأكف كانت تصفق فى حرارة تكاد تمزق يدها ..
وعيونهم
تطفر الدموع ..
طبعاً
تعرفون أغلب هؤلاء ..
أو
تتوقعون من هم على الأقل ..
لكن
ما لم أتوقعه أنا هو شعور الدوار الذي خامرني فجأة وسقوطي وسط الحفل .. الظلام ..
الراحة .. إنه الأغماء في غير وقته أو ربما هو وقته المحدد بدقة
رواء
تبتسم وتحتضنني وتقبل وجنتى وجبينى ..
هللت
فرحة : أخيراً جئت لقد اشتقت لك .. وأريد أن أعتذر م
وضعت
أناملها الرقيقة على شفتى وأنا أنظر لها وهى تربت على شعرى .
أمسكت
لؤلؤة تشع نوراً براقً جميلاً .. ومدت يدها بها نحوى
مددت
يدي لأخذها منها لكنها برفق وضعتها داخل أحشائى ..
شعرت
بالدفء والراحة والأطمئنان .. شعرت بالسكينة تتسرب الى جوارحى رويداً رويداً ... أمسكت
رواء يدي وقبلتها .. أسرعت وقبلت يدها وأنا أحاول التمسك بها .. لكنها تركتني في
وداعة وهي تشير بعلامة الوداع وهى تبتعد وتدخل في ضوء باهر .. فتحت عينى لأجد هشام
إلى جانبى وهو يقبل كفى فى سعادة كما كانت تفعل هى فى الحلم تماماً ..
سألته
فى همس وأعياء :- ماذا حدث ؟؟ أين أنا ؟؟
هشام
فى فرح يقبلنى وهو يكاد يحملني ويطير من الفرح :- أنت حامل .. لا أجد كلمات تكفى وصف
سعادتى الآن ..
وأنا
كذلك انتقلت إلى عدوى السعادة .. لكننى لا أستطيع القفز ومجاراته .
دلف
للغرفة أبى وأمى وأحمد وعصام ووالد هشام والكل يهنئني فى سعادة
أما
أحمد فلم أفلت من سخريته :- حتى عندما قررت افتتاح مستشفى طمعت وكنت أول مريض فيها
.. ما هذه الأنانية يا أم زغلول ؟
انطلق الجميع يقهقه وأنا أبتسم
وأود القفز عليه لكن لا أجد فى نفسى الطاقة لفعل هذا الآن
************
يمكنكم
تخيل بقية قصتى .. لكننى سأريحكم من عناء التخيل
فقد
أنجبنا فتاة جميلة كالقمر فى ليل التمام كما يقولون رغم أنى لا أعرف ما هو الجمال
المتجسد في القمر فى ليل التمام
هذا
ربما لأننى طبيبة منشغلة بالعمل والأمراض فلا أنظر للسماء كثيراً وقد لا أعرف هل
هذه ليلة التمام أم لا من الأساس .
حتى
لو رأيته حينها يحلل عقلى الأمر علمياً لإلكترونات ونيترونات وذرات وخلايا ومجرات
وكواكب ونجوم مما يفقدنى على الفور الإحساس بالجمال
وللأسف
لا أستطيع إيقاف هذا المحرك حتى وأنا أشاهد أجمل الأشياء على كوكبنا .. فقط قد يبهرنى
كل ما هو جديد لم تقع عينى عليه ثم يتحول الى ذكرى يختزلها عقلى تحت تصنيف علمى ما
...
لكن
رواء ابنتنا تفعل هذا وتميز الجمال ما إن تقع عينها عليه ..
تتذوق
الأشياء من حولها في رقة .. تشعر بشفافية فائقة بالكون من حولها وبموجوداته .. لها
ضحكة تملأ الكون سعادة وفرحاً ..
عندما
كنا نشاهد أضواء الشمال سوياً .. هشام ورواء وأنا في لابلاند بفنلندا
الشفق
القطبي الساحر بألوانه الخضراء الزاهية الجميلة المتراقصة لترسم مئات اللوحات المبدعة (
أورورا ) ورواء تشير بأصبعها الرقيق نحو اللوحات سريعة التشكل وتنطق بصوتها العذب :
الله .. ميلا أوى بابا
عندها
أطلقت شهقة فرح وضممتها فى سعادة .... وهشام حملنا في سعادة وكأننا طفلتان .. هل
لاحظتم انها قالت بابا فهى ابنة أبيها .. تباً لغيرتى ...
لكن
بعض الأشياء يصعب التخلص منها ...
فرواء
صغيرتي سكنت غرفتها .. وسلبت قلب أبيها
وأخذت
كل حياتها وجمالها وفتنتها من رواء الطيف الجميل
عيونها
السوداء الجميلة
قسماتها
المرسومة في إبداع الخالق العظيم …
أنفها
المنمنم الصغير .. شفتاها الورديتان المنمقتان ..
كل
من يراها يقسم أنها تشبهها تماماً
ربما
طيفها عندما فارقنى انسكب داخلها وسكن روحها ..
ربما
هذا ما كانت تبحث عنه رواء ... طفلة ..
مجرد طفلة لتهبها روحها الهائمة
فانتازيا رومانسية جميلة
ردحذفررررررررررررررائعة
ردحذف