الحلقة الأولى

الحلقة الأولى

العودة
للحياة
كلنا بشر .. متباينون ولكننا متساوون كلنا نتنفس الهواء وتحكمنا نفس آلية
الجسد ونعيش تحت السماء وفوق الأرض .. لكن بيننا بشر لديهم هبات من الله ربما معجزة لا ندركها بعقولنا المحدودة .. لأنهم خارج حدود المألوف
ذلك الرنين
المزعج القادم من عالم آخر عالم بعيد عالم الاحلام .. استيقظت من نومى على صوت المنبه المزعج ... افتح عينى بصعوبة بالغة وجفونى
ما زالت مثقلة بالنوم ... أشعر أنى لم أنم جيداً ولا أدرى سبباً لهذا الشعور
المتعب بأننى لم أكتفى رغم الساعات التسع ... أقوم متثاقلاً وأتجه للحمام لأخذ
حمامى اليومى وأعد قهوتى سريعاً .. أمارس طقوسى الصباحية المتعجلة في تسارع وكأنى آلة اعتادت تكرار عملها لآلاف المرات .. الصلاة.. أطعام القطة الصغيرة التى وجدتها أمام باب شقتى من
أسبوعين ترتعش من البرد فأخذتها وأصبحت أليفى فى وحدتى ومفسدة مقالتى المحببة
بمشيها على لوحة المفاتيح.. ارتداء ملابسى بسرعة ودقة بالغة .. إغلاق الباب
بالمفتاح جيداً.. القفز للمصعد البطيئ الحركة .. الأنطلاق بالسيارة وكأنى فى أحدى
جولات لعبة نوت فور سبيد أسابق الجميع وكأننى أسابق نفسى .. أتوجه نحو كورنيش
النيل فلدى اليوم تغطية صحفية لمؤتمر منعقد بأحدى دور الرعاية تحت رعاية منظمة
اليونيسكو .. أنا حسن الوردانى الصحفى .. هل اعجبكم الدخول المتهور لشخصيتى التى
ازعم أنها تعبر عن صاحبها فى اجمال
انطلقت بسيارتى وسط الزحام الذى أكرهه
حتى وصلت سور مجرى العيون .. على جانب الطريق ألاحظ تجمع بشرى ممتد يعوق مسار
السيارات... أتطلع بفضولى الصحفى والفطرى.. لا جدوى من السؤال والتحديق والتلفت
بحثاً عن أجابة لن أتمكن من معرفة شيء من موقعى داخل السيارة.. أركن سيارتى وأنزل
بحثاً عن سبق صحفى.. أنخرط وسط الزحام محاولاً الوصول الى بؤرة الأحداث ...
أخيراً وصلت بعد تخطى الجموع لأجد امرأة
متشحة بالسواد تفترش الأرض وتحمل بين يديها طفلا فى حدود الخمسة أعوام يبدو للوهلة
الأولى أنه متوفى والناس من حولها يواسونها.. إذاً هو ليس سبقاً صحفياً.. هممت أن
أرجع لسيارتى لكن شيء ما جعلنى أتجه للمرأة وأسألها من باب الشفقة التى كثيرا ما
أوقعتنى فى المآزق ويبدو أنه أحدها : مالك يا ست خير ؟؟ أيه مشكلتك؟؟
ردت بصوت يملؤوه النحيب والبكاء: إبنى
بيموت ومش راضيين يقبلوه ف المستشفى منهم لله حسبى الله ونعم الوكيل.
تذكرت لحظتها أننا بجوار مستشفى شهير إحدى
مشروعات الحكومة التى تقوم على التبرعات والتي لا تكف إعلاناتها عن التكرر لمئات
المرات.. شعرت بالأسى على الطفل الصغير وقررت مساعدة المرأة وكعادتى الشهمة طلبت
منها ان تتبعنى : تعالى معايا هنحاول وربنا يعمل اللى فيه الخير.
قامت مسرعة وكأنها تلتمس الحياة
لطفلها ربما عطرى وبدلتى الأنيقة أوحت لها بأننى شخص مهم ... اتجهت وهى من خلفى يتبعنا
بعض الأشخاص الفضوليين حتى باب المستشفى.. أشهرت بطاقتى الصحفية لأفراد الأمن وطلبت
الدخول أنا والسيدة فأجابنى أحدهم: حضرتك أحنا لسه مطلعينهم ...الدكاترة رفضوا
الحالة .
قاطعته في تحدى: هخش أنا وهى وهنشوف ممكن
توسع شوية ....
تراجع وتركنى أدخل بنظرة يملؤها
التوجس وكأنه يخلى مسؤوليته لا أكثر...
توجهت لمكتب الاستقبال فى البهو
البالغ الفخامة وسألت الموظفة: السلام عليكم حضرتك ممكن أعرف الطفل ده مقبلتهوش
ليه؟؟
أجابتني بلا مبالاة وبرود متناهى :
حالته متأخرة مش هنعرف نعمله حاجة
رددت بكل عصبية وبنبرة حادة : نروح
ندفنه يعنى؟؟!!!
هي ببرود متناهى أحسدها عليه ربما هذه
الصفات من متطلبات الوظيفة ويبدو أنها حظت بأعلى الدرجات عند تقدمها للوظيفة :
معرفش حضرتك فيه نظام لقبول الحالات وده مش شغلى.
هنا انطلق غضبى من لا مبالاتها بروح
خلقها الله وتحتاج للإنقاذ وهى لا تحرك ساكناً ... وأنا أسألها فى تحدى : انتوا
خلاص بقيتوا آلهة بتقرر مين يعيش ومين يموت ؟؟ نظرت لى فى عدم فهم يبدو أن من شروط
الوظيفة الغباء أيضاً
استدرت وحملت الطفل الصغير من يد أمه الثكلى
بين يداى وطلبت من الموظفة مقابلة مدير المستشفى فورا بكل تهديد وبصوت عالى ضخمه
اتساع الفراغ فى بهو المستشفى واستوقف الجميع: مدير المستشفى دى فين؟؟ .. وإلا هعملكم
فضيحة هنا واقلبلكم الدنيا
وبنفس اللامبالاة والبرود أجابتني:
المدير مرور دلوقتى حضرتك
بدأت فى ثورة أهدد وأتوعد في عصبية شديدة..
كانت موظفة مستفزة لأقصى درجة..
فجأة وجدت يدا تربت برقة متناهية على
كتفى .. نظرت لمصدرها بوجه متجهم لأجد امرأة
فى نهاية العشرينيات بوجه ملائكى شديد الجمال وشعر كستنائى منسدل على كتفيها وعطر
نسائى فواح يزكم الأنوف وتمسك بيدها طفل جميل يشبهها حتى تجزم أنها أمه وفى حزم
طلبت منى أن أتبعها : تعالى معايا حضرتك.
تحركت خلفها متسائلا: على فين؟؟
ظننت أنها أحد المسؤولين بالمستشفى.. ولكنها
اتجهت بنا لأقرب مقاعد الاانتظار وجلست.. وجلست بطبيعة الحال أنا وأم الطفل لنرى
ما الأمر .. ونحن فى حالة من عدم الفهم .. لكنه الأمل .
وأخذت السيدة الجميلة تهدئ من روعى: أهدى
حضرتك وان شاء الله خير متقلقش ... هوا حضرتك باباه؟؟
نظرت لها فى حيرة وجبل من الأسئلة
يدور فى نفسى ولكنى لا أجد القدرة على الكلام .. وكأن ثورتى أخذت كل طاقة الكلام
وأخمدتها فى داخلى
فأجابتها أم الطفل المريض من فورها: لا
الأستاذ بيحاول يساعدنا الله يباركله وابنى زى ما انتى شايفه يا مدام قاطع النفس
...
وانطلقت فى موجه من البكاء والسيدة
تربت عليها لتواسيها وتبث الطمأنينة فى نفسها ...
تحرك الطفل الصغير الجميل ووقف أمامى
ومسح بيده على جبين الطفل المريض والذى مازلت أحمله بين يدى ووضع يده الأخرى على قلبه
وأغمض عينيه... هممت أن أبعده خوفا عليه من العدوى فأنا أجهل كل شئ عن الأمراض ما
عدا الأنفلونزاالتى تصيبنى واكتفى معها بتناول الليمون وقع الزنجبيل الحار لا أكثر
لكن شعرت كأننى مكبل وتملتكنى الحيرة
والعجز ولا أدرى ما الذى أسكتنى؟؟ الترقب..
شعور عدم الفهم.. الفضول.. كلها مشاعر تزعجنى عندما تعترينى ... درت برأسى وعينى تلتمس
الفهم ممن حولى وهممت بالكلام.. ولكن أسكتتنى إشارة من يد السيدة الجميلة وابتسامة
رقيقة جعلتها كحورية من الجنة
وبدأ شعور من الخدر يسرى فى جسدى
وأنقطع إحساسى بالوقت والمكان والشخوص من حولى وأصبحت أنظر للطفلين بتتابع متسائل
وأنظر لأم الطفل المريض وكلها استسلام وأمل متكئة بوجهها على كفيها ومحنية بظهرها
للأمام ودموعها تأبى التوقف فى صورة معبرة للشقاء.
شعرت بحركة خفيفة من الطفل المريض
وفوجئت به يفتح عيناه بتثاقل وأنتفض يتثاءب وكأنه أستيقظ من نوم طويل .. انتفضت
أمه من جلستها فأمسكتها يد السيدة الجميلة وتوجهت بالسؤال لطفلها: خلاص؟ فهز رأسه إيجاباً
...
فتركت يدها الممسكة برقة ومدت يدها
تحمل طفلها الجميل في رقة وهى تصفف شعره المتهدل بخصلاته الناعمة على وجهه في حنان
بالغ...
وأنقضت أم الطفل المريض على طفلها غير
مصدقة وأخذته من بين يدي تضمه بشدة وتتفحصه ضاحكة باكيه لاهثة وكأنما كانت تعدو
آلاف الأميال متضاربة المشاعر العفوية والطفل يبكى ويتحرك بين يديها وهى تردد بصوت
عال وترفع أكفها للسماء : ألف حمد وشكر ليك يا رب.
وعندما نطق طفلها لم تكن مصدقة...
أطلقت زغاريد ممزوجة بالبكاء تجمع على أثرها كل من ببهو المستشفى ..غريب هو تضارب
مشاعرنا طفلها كان على شفير الموت والآن عاد للحياة.. وألتف حولنا العديد من
الأطباء والزوار على أثر الزغاريد وصياح المرأة: إبنى عايش ألف حمد وشكر ليك يا
رب.
كنت أشعر أننى منوم مغناطيسياً فما
زلت أجلس فى ذهول غير مصدق ما يحدث حولى يحتضننى مقعدى وكأنه غاية المبتغى يكبلنى
براحة وخدر يسرى في جسدى وعينى تتفحص الوجوه والعيون الغير مصدقة حولى.. والهمهمات
والكلمات المتناثرة في الأفواه والأطباء وهم يقتادون السيدة وأبنها المريض..
وفجأة دقت فى رأسى آلاف الأجراس
وانتفض فضولى بكل طاقته لقد اختفت السيدة الجميلة وطفلها أين ذهبوا ؟؟
قمت أسأل الناس عنهم من كانوا حولى أشاروا
الى باب الخروج ... فانطلقت فى سباق مع جسدى الممتلئ قليلاً لألحق بهم ولمحتهم بنظرة
خاطفة يخرجون من البوابة الخارجية للمستشفى والسيدة تحمل طفلها بين يديها وتحتضنه
فى حنان وهو مرخى يديه على كتفيها .. وأدركتهم هناك واستوقفت السيدة بأدب حتى لا
تظن سوءاً: لو سمحتى ممكن أسألك عن اللى حصل جوه ده ممكن افهم من فضلك ؟؟
نظرت لطفلها وكأنها تسأله وتلومه فى
ذات الوقت: خير؟
سألتها بغباء منقطع واندفاع : هو ايه
اللى عملتوه خلى الولد يفوق ؟ أنا آسف بس أنا عاوز أفهم
طلبت رقم هاتفى : ممكن رقم تليفونك
وأنا هكلمك عشان مرتبطة بمعاد دلوقت ؟؟
أخذت ابحث فى جيب بذلتى عن بطاقة
تعريف حتى عثرت عليها... هززت رأسى باستسلام وأعطيتها الكارت أخذته ونظرت تقرأ المكتوب
في البطاقة.. ولاحظت تغيراً قد طرأ بملامح وجهها عندما قرأت البطاقة الكثبر من القلق قد اعتراها ... وانصرفت مسرعة وكأنها تهرب من المكان!!
ترى ما سر تصرفها هكذا؟؟
ظللت مكانى أراقبها حتى انطلقت بسيارتها
الصغيرة في سرعة وهى ترمقنى بنظرة مبهمة وهى تمر من أمامى ...
قررت أن أعود للمرأة بداخل المستشفى فقد
كان يشغل عقلى ما حدث
سألت عن مكان تواجدها من ذات موظفة الاستقبال
التي صرت أكرهها لبرودها المبالغ فيه.. وتوقعت الإجابة هي لا تعرف كم أود لو
يفصلوها في الحال من عملها حتى أشعر بالراحة لا كم أود أن يصيبها ذات المرض لتشعر
بآلام الناس لكن أعتقد أن البرود المتناهى كان من شروط الوظيفة منذ البداية كما
أظن ..
سألت موظف الأمن بالداخل عن المرأة
وطفلها المريض أخبرنى أن الأطباء أخذوها لقسم الأشعة فى أخر الممر .. توجهت حيث
أشار ووجدتها تجلس خارج غرفة الأشعة وما إن رأتنى حتى أخذت تدعو لى وسألتها: الولد
كويس؟؟
هزت رأسها في عدم فهم.. سألتها: هما
بيعملوله إيه ؟؟
ردت حائرة: بيقولوا أشعة ... افتكروا
دلوقت يكشفوا عليه ويشوف فيه ايه بعد ما فاق .. خدوه من ايدى ودخلوا من ساعتها .
سألتها وكأني أبدد الصمت لا أكثر: محتاجة
حاجة فلوس أي حاجة ؟؟
ردت بامتنان: الله يسترك دنيا وآخرة ويوقفلك
ملايكة السما والارض أنا مش مصدقة يا بيه دا كان خلاص الواد ميت ومشونى عشان كده
أنا نفسى مش مصدقة اللى حصل... وانطلقت فى بكاء فرح ..
بعد ساعة كاملة خرج الطبيب من الغرفة
وسألنا عما حدث؟؟ اخذت المرأة تسرد القصة وتشير نحوى بين الحين والآخر وعينا
الطبيب تخبر بأنه غير مصدق لما تقوله المرأة البائسة ولكنى كنت أؤكد له كل كلمة
نطقت بها بإيماءة من رأسى رغم عدم فهمى لما حدث ..
الطبيب في دهشة: انا مش قادر استوعب
.. اللى حصل ده معجزة.. معجزة بكل المقاييس الولد الورم حصل فيه ضمور بشكل غريب.. كأنه
عمل جراحة بعد ما كان متضخم بشكل كبير... انا أتأكدت بعد ما قارنت النتايج ..
معنديش حاجة أقولها لأنى مش فاهم اللى حصل غير أنه معجزة فعلاً
كانت كلماته لا تفسر شيئ كان ما يقوله
صادماً بالنسبة لى ! الأنكار لا مجال له!! الحيرة والارتباك والجهل هو كل ما نملكه
.. ما حدث ربما محض سحر .
يجب أن أفهم سيقتلنى الفضول حتى
تكلمنى السيدة الجميلة وتخبرنى حقيقة الأمر
يتبع ف الحلقة القادمة
إرسال تعليق