رحلتى اليومية للعودة من العمل والإرهاق الذى يعترى كل ذرة فى جسدى المثقل بروتين الحياة الممل ما بين العمل والزحام ووحدتى وحياتى الفارغة من كل اهتمام
أصعد سلم البناية مثقلاً بأكياس الطعام ومستلزماتى التى اشتريتها
للتو من المتجر بجوار مسكنى ... وما إن وصلت للطابق الخامس الذى أسكن أحدى شقتيه
حتى جفلت وتراجعت للخلف درجتين من السلم الشاق ... فقد فوجئت برجل مسن يجلس على
درجة السلم الأخيرة لم أتبينه فى البداية .... بجسده الممتلئ متكئاً برأسه على
عكاز يمسكه بكلتا يديه وصدره متصاعد بأنفاسه المتسارعة من أثر صعوده السلم على ما
يبدو ... نظر نحوي بعينيه الواسعتين ووجهه الأبيض الممتلئ ولحيته البيضاء الكثة
وشعر رأسه الخفيف الأشعث الأبيض ... أشار لى بالصعود محاولاً القيام من جلسته
فهرعت لمساعدته فابتسم لى وشكرنى ... لم أكن اعرف أين سيتجه صعوداً أم نزولاً؟؟
فتسمرت مكانى أراقبه حتى يحدد وجهته ولا نصطدم بجسدينا ... فلست مستعداً للتسبب فى
سقوط رجل مسن على الدرج ... الغريب أنه توجه لشقة مدام منال المغلقة من سنين بجوار
شقتى مباشرة ... وأخرج من جيبه مفتاحاً وفتح به الباب ... توجهت لشقتى ودخلت وكلى
حيرة من هذا الكهل ... لا يبدو أنه لص!! ولكن من هو وهل له علاقة بأصحاب الشقة؟؟؟
.... ولبرهة فكرت أن أعود وأطرق بابه وأسأله ... لكن منعنى مبدأى بعدم التدخل فى
حياة الآخرين فنفضت عن رأسى الفكرة فوراً ... دخلت لأعد طعامى الجاهز فقط بوضعه فى
الأطباق ... فأنا لا أملك طاقة نفسية أو جسدية لأعود من العمل وأقف فى المطبخ وأعد
الطعام ... وخصوصاً أننى من هؤلاء الأشخاص الكسولين بطبعهم .... كما أفضل عدم
تبزير الأموال وإهدارها على إتلاف الطعام وكم من التجارب المريرة التى مررت بها فى
هذا الشأن .... وضعت الأطباق على الطاولة التى تقبع ملاصقة للأريكة هنا حيث اجلس
وأنام وأشاهد التلفاز دون أدنى حركة ... فانا ألتصق بهذه الأريكة من لحظة دخولى
الى وقت النوم ... وكم من المرات نمت فى نفس وضع التمدد الغير مريح لكنه الكسل هنا
فى هذا الحيز الذي لا يتعدى المترين تدور حياتى كلها فى روتين رتيب محبب لنفسى رغم
كل شيء .... ولكن استوقفنى صوت طرق خفيف على بابى.. هل أتخيل هذا الباب لا يطرقه
أحد إلا فيما ندر ... فتحت الباب بتوجس كان نفس الرجل المسن يطلب منى المساعدة لأضيء
له أنوار الشقة من لوحة التحكم لأنها فى موضع مرتفع لا يستطيع الوصول إليه ....
ذهبت معه من فورى فأنا من النوع حسن النية قليل الشك .... وثبت على كرسى موضوع أسفل
اللوحة وأضأت الشقة .... لكن ما رأيته كان فظيعاً بحق .... كان يكسو أثاثها
الكثير من التراب وخيوط العناكب ... أشفقت على الرجل كيف سينظف كل هذه الفوضى
؟؟!... لكن ماذا أفعل؟؟؟ وبعد تفكير لم يستغرق لحظات طلبت من العجوز مرافقتى لشقتى
لأتصل له بالمرأة التى تأتى لتنظف لى شقتى ... فوافق فى سعادة ... أغلقنا الشقة
وعدنا لشقتى واتصلت بأم حمدى ووعدتنى بالحضور فى الغد الباكر.. سألتنى عن المفتاح؟؟
أخبرتها أن تطرق بابى وسيكون صاحب الشقة التى بجوارى موجوداً عندى فلتطرق بابى
فأنا أعرفها غبية لو لم أعطها تفاصيل كل شيء فالويل لى وحدي ... كان الرجل ممتناً
... وقد حاول الانصراف لكنى ألححت فى تواجده هنا الليلة فأنا أعيش وحدى ولا يعقل
أن يعود الى شقته وهى بهذا الشكل الفظيع ... أستسلم ... وبدأنا فى تناول
الطعام بعد أن ألححت عليه كثيراً وأخبرنى أن أسمه على وهو والد مدام منال وأنه
سيجلس بالشقة لفترة وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث وكان حديثه شيقاً حيث أن الرجل
يتمتع بحس الفكاهه وأسلوبه الجميل الراقى وانتهينا من الطعام ... لم يكن يأكل
بالمعنى المفهوم للأكل كانت لقيمات صغيرة جداً ويظل يمضغها طويلاً ... يبدو أنها
الشيخوخة ... التى تذهب معها الأسنان وتبقى فقط القدرة على ابتلاع الطعام أو لوكها
فى الفم حتى يكون ليناً ... أصررت أن يكون عم على ضيفى الليلة فوافق على استحياء
... احتسينا أكواب الشاى ثم طلب الذهاب للحمام للوضوء اقتدته الى حيث الحمام
وعندما فرغ توضأت ولحقت به معتقدا أننا سنصلى معا حيث كنت أصلى فى شقتى لكنه طلب أن
ننزل للصلاة فى المسجد كانسان كسول هذا الأمر صعب على نفسى لكن ما باليد حيلة كيف
سأبرر لرجل مسن أمراً كهذا وانا الشاب القوى .... نزلنا لنصلى المغرب بالمسجد
القريب من المنزل وبعد أن فرغنا طلب منى الجلوس حتى نصلى العشاء لأن السلم يتعبه
صعوداً فجلسنا نقرأ القرآن ونتلو بعض الأذكار وفرغنا من صلاة العشاء وصعدنا ....
كنت فى حالة من الإرهاق الممزوج بالمتعة النفسية من أثر الرحلة للمسجد .... منذ
سنوات طويلة لم أفعل هذا ... جلس عم على يحكى لى قصته وكيف أنه كان رجلاً ثريا بل
بالغ الثراء ولكن بعد وفاة ولده الأكبر ومن بعده زوجته جعله زاهداً فى كل شيء وأن
الحياة قد دارت به وقست عليه بسبب بعده عن ربه وانشغاله بالدنيا وارتكابه الكثير
من المعاصى والآثام وأنه يشعر أن هذا درس له من الله لأن الله يحبه ... ظللت أستمع
لعم على بإنصات وانا مستمتع ... لا أدرى هل لأن الرجل آنس وحدتى وغير يومى وحياتى ورتابتها؟؟؟
أم لشعورى بأنه رجل طيب ووجودى معه يشعرنى بالارتياح؟؟؟ لا يهم فقد أثقل النوم
جفونى ولاحظ هذا فتمدد فى مكانه بالكنبة حاولت جعله يدخل لينام هو فى فراشى فجسدى
ضئيل مقارنة بجسده وأستطيع النوم فى أي مكان فرفض بإصرار والنوم يلح على عقلى
فتحركت بآلية إلى الغرفة وألقيت بجسدى المتعب على الفراش.. ونمت كلوح خشبى يطفو
فوق نهر.. كنت قلقاً على غير عادتى متوتراً كثير الحركة أثناء النوم وكأن تيار
النهر يدفعنى بين شطيه
فى الفجر شعرت بيد حانية تهزنى فجفلت فى فزع وقفزت من الفراش فأنا
أقيم وحدى.. صوته أعاد لى هدوئى وتذكرت وجدوه معى سألته عن الوقت؟؟ .... أنه الفجر
... نظرت الى وجهه بضيق وبلاهة وتبرم.. هو يوقظنى للصلاة ... قمت مستسلماً.. كيف
استيقظ هذا الكهل؟؟ توضأت ووقفت للصلاة متجاهلاً وجوده .... لكنه سحبنى من يدى
وجرنى جراً ... وصلينا الفجر بالمسجد ... لا أصدق استيقاظى فى هذا الوقت بحال من
الأحوال ... وعدنا وجلس هو يقرأ القرآن ودخلت لأكمل نومى ... هذه المرة كصخرة فى
قاع المحيط .... استيقظت فى الصباح لأجده قد أعد وجبة الفطار ... كنت فى العادة لا
أتناول الفطار أبداً فتناولت لقيمات سريعة وتركت نسخة من مفتاحى لعم على وذهبت
للعمل فى عجلة من أمري ... فى المترو كنت أفكر فى عم على وما يفعله معى ...
فلأتحمله هى ليلة ومضت ... عدت من عملى فى الرابعة لأجد شقة عم على وقد أصبحت
نظيفة وأنيقة فى بريق مبهر.. لماذا لا تجيد أم حمدى تنظيف شقتى بنفس الصورة
الجميلة التى أراها ... فليكن فقد انتقل هو إلى شقته.. لكنه كان قد أعد الطعام لى
.... جلست أتناوله بشراهة فقد كان شهياً حتى أننى وضعت الطعام الذى أحضرته معى فى
الثلاجة ... واستأذنته فى الانصراف.. لكنه طلب منى الاستعداد للذهاب للمسجد ...
حاولت التملص منه دون جدوى ... فقد أصبح عم على كل صلاة يطرق بابى ونذهب للصلاة
سوياً ... حتى أننى اعتدت على الأمر بل أصبح من روتينى اليومى ..... وأصبح هو
أيضاً ضمن روتينى اليومى العودة من العمل .... نتناول الطعام سوياً ... نذهب لصلاة
المغرب ونظل حتى صلاة العشاء .... نعود للمنزل ... أو أحياناً نخرج سوياً للجلوس
بالحدائق والمتنزهات القريبة من حديقة الحيوان وجامعة القاهرة أو بكورنيش النيل أو
كوبري الجامعة كل ما هو فى حيز المنطقة السكنية التي نسكنها .... كنا نتحرك على
أقدامنا .... وكنت أتعجب منه!! هذا العجوز قوى فعلا ويستطيع السفر سيرا على
الأقدام ... يتأبط ذراعى ونسير إلى حيث يقرر هو ... كان هو من يختار المكان كل مرة
... كنا نجلس نتجاذب أطراف القصص والحكايات التى يرويها لى عم على بأسلوبه الشيق
ونستنشق الهواء ونراقب المارة ذهاباً وإياباً وهو يطلق حكمه ويعلق على كل موقف
نراه ... هذا الكهل يذكرنى بجدى فأنا يتيم وجدى هو من تولى تربيتى .... كنت وحيداً
فى الدنيا لا أهل لا أصدقاء إلا زملاء العمل الذين تنقطع أى علاقة لى بهم بمجرد
خروجى من باب الشركة وبالطبع لا زوجة ولا أولاد ... وأصبح عم على كل حياتى فعلياً
.... أشعر معه بالسعادة والأمان والاطمئنان ... اعتبرته والدى الذى فقدته فى
طفولتى وأصبحت متعلقاً به الى أقصى درجة .....
وبعد مرور عام كامل من أسعد أيام حياتى ... كنت عائداً
من عملى لأجد مدام منال تقف على باب شقتها وتحاول فتح الباب ... فألقى عليها
التحية وأخبرها أن تطرق الباب ربما عم على نائم .... تنظر لى منال بكل استغراب
ودهشة وتسألنى: عم على مين ؟؟ وأندهش من ردها الفج المنكر: والدك
تنظر لى طويلاً فى تأمل.. ثم تخبرنى ببساطة أن والدها
فعلاً أسمه على ولكنه مفقود منذ فترة .... وظلوا يبحثون عنه كثيرا دون جدوى ولم
يأتى ببالهم أن يبحثوا عنه هنا أبدا ...
يا لحماقتكم وعقوقكم ... هو من حديث النفس ... بالطبع لا أجرؤ
على البوح برأيى فى فظاظة .... أتحرك لأطرق الباب بلطف فى البداية.. ثم أعلى
قليلاً وهى تراقبنى فى تحفز وحذر ... كانت تعرفنى عندما كانت تقيم هنا لكننى أبداً
لم أكن تربطنى أى علاقة من أى نوع بأى من الجيران المقيمين بالبناية لا أكثر من
إلقاء التحية العابرة عند مقابلة أحدهم على السلم أو فى مدخل البناية ... كانت
الوجوه كلها مألوفة بالتكرار لا أكثر لا أحد أعرفه تحديداً لم تكن تعنينى الأسماء يوماً!...
لماذا تأخر فى فتح الباب ؟؟... منال تسألنى بتشكك أن كنت متأكد أن والدها هنا فعلاً؟؟؟ وأكدت
لها بكل ثقة فرس النهر أنه هنا وابتسامة بلهاء ترتسم على وجهي ... تدس المفتاح فى
الباب للمرة الثانية وتحاول فتح الباب دون جدوى ... بدأ القلق يتسرب الى نفسى ...
ربما قد أصابه مكروه؟؟؟ أخفى هاجسى عنها.. تخرج هاتفها من حقيبتها وتتصل بأخويها وزوجها وهى تخبرهم بما
أخبرتها به ... وتطلب منهم الحضور سريعاً.. أطلب منها المفتاح لأحاول فتح الباب..
تشير للباب وتتابع حديثها وهى تراقبنى ... كان المفتاح لا يزال فى الثقب كما هو..
أحاول مع المفتاح بلا جدوى ... تدور القصة فى عقلى كما أخبرنى بها عم على
... فهذه الشقة كانت شقته عندما كان شاباً وتزوج
فيها وعاش فيها حتى أصبح ثريا فذهب لفيلته وأعطى منال هذه الشقة عند زواجها ... ثم
أعطاها شقة أكبر بأحد العقارات الفخمة التى كان يملكها بعدها بفترة .... ومن وقتها
وقد تركت منال هذه الشقة ولم تفكر فيها كل هذا الوقت ... ثمانية أعوام كاملة ...
كان كل هذا يمر فى عقلى فى ثوانى.. اعتذرت لها فلا أستطيع دعوتها للداخل فأنا أقيم
وحدى بالشقة ولا يجدر أن تتواجد معى امرأه وحيدة.. هزت رأسها علامة الفهم.. دلفت
الى شقتى ولكن استحييت من أغلاق الباب فى وجهها فتركته موارباً.. القلق يفتك بى
لكن لا شيء بيدى.. ها هو أذان المغرب.. تقفز لعقلى فكرة فلأذهب للمسجد ربما أجده
هناك ... تحركت على الفور وخرجت من الشقة وهى ما زالت تحاول فتح الباب فى إصرار
وتركله بعنف.. لاحظت وجودى ناولتها مفتاح شقتى فى عجلة وأخبرتها أنى ذاهب للصلاة وبإمكانها
الانتظار ريثما أعود ... كنت امشي فيما يشبه العدو لأصل للمسجد وأقتل هذا القلق
الذى يتنامى فى داخلى كأخطبوط تمتد أذرعه لتكبل كل شبر فى نفسى وتعتصرها بقوة ....
لم يكن هناك.. أنهيت الصلاة وبدأت فى سؤال بعض الأشخاص الذين اعتدت وجودهم فى معظم
أوقات الصلوات وإن كنت الأسماء لا أعرفها ولا تعنى لى شيئاً فقط سؤالى كان محددا
جدا هل رأى أحد منكم الرجل العجوز الذى يأتى بصحبتى ؟؟؟.... كانت الإجابة محيرة!!!
الجميع لاحظ وجودى فى أوقات الصلاة لكن لا أحد منهم على الأطلاق لاحظ عجوزاً
برفقتى ... فى نفسى أتهمهم بالتخريف كيف لم يلاحظوه وهو ضعف حجمى؟؟ فقط تذكرتم
صاحب الجسد النحيل الضئيل ... عدت مسرعاً فقد يكون قد وصل المنزل الآن ....
كان فى كثير من الأحيان يختفى عم على ولكنى كنت لا أسأله لأترك له مساحة من
الخصوصية.... كنت أتركه يقول ما يريد قلما سألته عن شيء ... وصلت إلى نهاية السلم
لأجد أخويها مراد وطارق وهى تقف الى
جانبهم وهم يحاولون فتح الباب.. عرفتنى بهم وإن كنت أعرفهم من صورة رأيتها ذات مرة
مع عم على .... ظللنا نحاول فتح الشقة
بالمفتاح دون جدوى فكلمت الأسطى حنفى النجار المجاور للمنزل... يأتى مسرعاً ويتفحص
الباب ويخبرنا أن هذا مفتاح الباب فعلاً لكن الكالون تلف من الصدأ ويخرج من حقيبته
مزيلا للصدأ ويسكبه فى الباب وأنا كلى حيرة مما يحدث تلف من الصدأ عن أى صدأ يتحدث
هذا المأفون ... أعرف أنه يتعاطى المخدرات أكيد أنه قد تناول إحداها قبل أن يأتى
... الكلمات كلها فى عقلى لا أجرؤ على البوح بهذا فقد يضربني لو عرف ما أفكر فيه
... رأيته فى أحدى المرات يتشاجر ممسكاً بمنشار فى يده وأصاب به العديد من الناس
... كورت يدى ووضعتها على فمى ممسكاً شفتاي خوفاً أن تفلت كلمة فأصبح أحد ضحايا
منشاره ... وأخيراً يفتح الباب وهنا تضربنى الصاعقة وأشعر بغشاوة فأفرك عيناي ..
فالشقة خالية من الأثاث تماما وكل ما فيها فقط أكوام من التراب ... لا شيء غير
التراب والعناكب نسجت خيوطها فى كل مكان ... أما فى داخلى فكان هناك عنكبوت كبير
يلتهم عقلى وينكز حدقاتى بالإبر لتنفتح على مصرعيها وقد تدلى فكى السفلى فى بلاهة مطلقة..
وأدلف الى الشقة والذهول يقطر من ملامحى.. وجميع من حولى ينظر إلى وأنا عاجز عن
النطق تماماً ..... أين عم على والأثاث الأنيق والشقة الجميلة النظيفة التى كثيراً
ما جلسنا فيها نتجاذب الأحاديث والقصص الجميلة هل أحلم ... هذا جنون .... وقفنا
جميعاً فى البهو الفسيح الخالى ... ومنال تردد على مسامعى سؤال لا أعرف أجابته ...
هل كنت هنا حقاً؟؟؟؟ وأنا أسأل نفسي هل كان عم على هنا؟؟؟ أنا شارد تماماً ... أدور
بعينى فيما حولى وأكاد أسقط مغشياً على .... وفجأة أتذكر أم حمدى أدعوهم لشقتى
لأكلم أم حمدى لقد نظفت الشقة .... ويتبعونى لشقتى وأتصل بها لكنى أصاب بمفاجأة
أكبر أم حمدى لم تأتى الى الشقة يوما ولم تنظف هذه الشقة ... هى تتذكر هذه المكالمة لكنها لم تجد أحداً عندما جاءت ... وأنا
لم أتصل من وقتها كعادتى عندما أرغب فى تنظيف شقتى وأغلق السماعة .... كانت شقتى دائماً نظيفة منذ أتى وظننت أن
عم على يكلمها فتأتى وتنظف الشقتين معا أثناء وجودى فى العمل.. سقطت فى دوامة من
الخوف والحيرة وبدأ من حولى ينظرون لى على أنى مجنون ... منال تؤكد لم يكن بالشقة
فرش لقد نقلت جميع ما بالشقة من أثاث حين انتقلت من هنا.. والأسطى حنفى الباب صدئ
من عدم الاستعمال لسنين.. وأم حمدى لم تنظف الشقة ولم تأت من يومها فمن كان ينظف الشقتين،
؟؟؟؟فطوال هذه الفترة كنت الشقة نظيفة دائما ... هل جننت؟؟؟ وأذهب لأعد لهم القهوة
... فى جنون أحاول إثبات أي شيء أصف لهم الشقه بالتفصيل الدقيق وكل قطعة أثاث حتى
الصورة على الجدار التى تجمعهم ووالدهم ووالدتهم واخوهم المرحوم خالد ... وصورة
وضعت فى برواز بشريطة سوداء لرجل يلبس جلبابا صعيدي ... ولوحة لفيل يحمل طفلاً
بزلومته ...يتبادلون النظر ويسألنى طارق منذ متى أسكن هنا ؟؟؟... منذ ما يقرب من أثني
عشر عاماً هى شقة والدى لكنى كنت أقيم مع جدى حتى وفاته ففضلت العودة إلى هنا ...
لم أستطع أن أظل بالشقة وحدى بعد وفاته كان كل شيئ يذكرنى به وذكرياتنا معا فساءت
حالتى النفسية ففضلت الانتقال إلى هنا ... كنت أثرثر فى سرعة وتوتر وانا اقضم أظافري
بفمى فى عصبية.. كانوا يتبادلون النظرات.. وسألته بعد برهة من الصمت وتبادل
النظرات المبهمة بالنسبة لى لماذا يسأل؟؟ نظر لأخويه وقال فى حزم أن ما أصفه هو
الأثاث عندما كان والدهم هو من يقيم هنا ويستحيل أن يكون وصفه بهذه الدقة دون أن
يراه !!!شعرت بالغباء ماذا تقصد؟؟ هو مكررا الإجابة: العفش اللى بتوصفه كان فى
الشقة دى من عشرين سنه واتباع كله قبل ما ننقل الفيللا مفيش غير الصورتين بس اللى
خدناهم معانا!!! عادت حدقاتى تتسع لكنها هذه المرة أصبحت تنساب منها الدموع فى
غزارة دون سبب ... عشرون عاما ماذا يقول هذا المعتوه؟؟؟ أخبرتهم ببراءة: عم على
هيجى دلوقتى وتتأكدوا من اللى بقوله.. هوا أحياناً بيخرج ويرجع متأخر شوية ...
يتبادلون النظر وقد قرروا الانتظار بدافع الأمل ولكنهم فى نفس الوقت فى حالة من
الحيرة تارة ومن الشك فى سلامة قواى العقلية تارة أخرى شعرت بهذا من نظراتهم ...
ظللنا جالسين منتظرين عم على وأنا أثرثر بما أعرفه وبما قصه على لمرات ومرات عديدة
طيلة عام كامل ... وهم يتبادلون النظرات ... وأصبحت حياتى كلها معلقة متشوقة لطرقة
عكاز (عم على ) وهو يصعد السلم لتخبرنى بمجيئه .. وتصيبنى حالة عجيبة من الحزن
والفقد واليأس وأبدأ أقص لهم حكايات عم على بطريقة يغلب عليها طابع الجنون والانفعال
وأنا ابكى بهستيرية ودموعى تنهمر وهم يصدقون على حقيقة ما أحكيه وبعد ساعات من
الجنون والانتظار يتصل مراد بالمحامى ليشرح له القصة ... فينصحه بالاتصال بالشرطة
... وهو ما أتفقوا جميعاً عليه الأدهى والأمر من العلقم فى حلقى إنهم يتهموننى
بإخفاء والدهم أو قتله وتأتى الشرطة ويقتادونى للقسم ... أنزل السلالم محبطاً يحيط
بى رجال الشرطة الدموع تملأ وجهى مستسلم كأنى مساق للموت .. يتابعنى الجيران
بعيونهم والفضول يقطر منها ... وفى الشارع أقف أتلمس ببصرى عم على قادم من أى
أتجاه دون جدوى ... فعم على قد تبخر تماماً وتركنى وحدى ... فى القسم تبدأ
التحقيقات وانا لا أمللك غير قصص عم على ودموعى ولا دليل واحد معى يثبت وجوده
ويشفق ضابط التحقيقات على فهو يشك فى سلامة قواى العقلية .. أنا نفسى
بت أشك فى سلامة قواى العقلية أكثر منهم ... مراد وطارق ومنال تم أخذ أقوالهم
وأنصرفوا ... يأمر الضابط بألقائى فى الزنزانة .. وفى محاولة يائسة منى أتوسل اليه
لأجراء مكالمة ... ويوافق على مضض اتصل بأحد زملاء العمل الذى يشغل والده منصباً
رفيعاً بوزارة الداخلية .. فيتصل والده بالضابط ليعرف ما أنا متهم به ويشرح له
الضابط القصة ... وينهى المكالمة وينظر لى فى تأمل ويطلب كوباً من الليمون ...
ويجلسنى ويحاول إيضاح ما أنا مقبل عليه .. فأنا متهم بالقتل ... أنا أقتل ... أنا
أضعف من أن أقتل ناموسة ... يطلب منى مصارحته بحقيقة الأمر .. وأنا لا أدرى للأمر
حقيقة .. غير أنى أظل أقسم له بما قصصته مئات المرات .... ويأتى زميلى ومعه محامى
ويؤكد للضابط أنى أنسان مسالم ومتزن وعلى خلق وأن الأتهام محض أفتراء .. ويطلع
المحامى على المحضر ... ولا يجد مفراً سيكون عمله بالنيابة وهى سترى ما يمكن عمله
... ويطلب زميلى من الضابط بصفة استثنائية عدم أدخالى مع المتهمين فى الزنزانة ...
كان يعلم أنهم سيفتكون بى من أول دقيقة ... ويضطر الضابط لأيداعى غرفة حجز جانبية
منفردة غير تلك التى يودعون فيها المجرمين ... أجلس على الأرض من الأرهاق
والتعب وانا أردد بهسترية : عم على ... وأظل أرددها فى توسل .... وضعت رأسى
على كلتا يداى فى وضع القرفصاء ... ونمت من التعب لفترة لا أعرفها لكنى أفقت على
يد حانية تربت على ظهرى فوثبت فى الهواء مجفلا ونظرت وأنا أتمسك بالجدار
خلفى وإذ بعم على أمامى فأنتفضت خوفاً لدقيقة ثم عدت وأحتضنته وأنا أصرخ
باكياً : أخيرا جيت؟؟ وهو يحتضننى ويربت على ظهرى ويهدئ من روعى ثم يجلسنى بيده
ويقول لى : جيت عشانك يا حبيبى عشان أطلعك حقك عليا .... ودس بيدى ورقة ... وطلب
منى أن أخبرهم ليذهبوا للرجل الذى أسمه بالورقة ليعرفوا الحقيقة .... هممت ان
أتكلم أسكتنى بإشارة من يده وقال لى : أصحى عشان صلاة الفجر .... أفقت من نومى
والورقة بيدى وآذان الفجر يصدح عالياً وأبحث بعيناى فى الغرفة عن عم على أين ذهب
... لقد تبخر ... لكن الورقة بيدى ... كيف جاءت الورقة ليدى ... فتحت الورقة ...
كان مكتوب بها عنوان وأسم شخص يدعى
الشيخ ناصر العزايزى .... إذا عم على موجود ولست اتوهم والدليل معى هذه المرة
الورقة !! نعم الورقة ... وطرقت
باب الغرفة فرد صوت أجش فطلبت منه بأدب وخوف مقابلة الضابط فأخبرنى أنه إنصرف
وسيأتى فى الصباح .... طلبت منه الذهاب للحمام فسمح لى يبدو أن زميلى اوصاهم
بمعاملتى على نحو خاص ... الحمد لله ...توضأت وصليت .... ونمت حتى استدعانى الضابط
فى الصباح فأعطيته الورقة وأخبرته ما حدث وهو غير مصدق لحرف مما أقول .. يسأل
العسكرى الذى كان يقف على باب غرفتى إن كان أحد دخل الغرفة التى أنا بها فأجابه
مؤكدا بالنفى وباستحالة ما اقول فنظر لى بضيق وتبرم توسلت له أن يصدقنى سيجد عم
على فى هذا العنوان هو قال لى هذا !! ولا يجد طائلا من بقائى فيأمرهم باعادتى
للحبس الانفرادى
فى المساء أستدعانى الضابط وهو ينظر لى طويلاً بتفحص ثم طلب منى
الجلوس ... طوال اليوم كنت نائم كحجر ... ولا أدرى ذهنى كان صافياً عكس الأمس ...
كنت أنظر إلى الأرض متحاشيا النظر للضابط الذى ظل يدور بكرسيه وهو يركز بصره نحوى
ثم سألنى كيف وصلت لى هذه الورقة ؟؟؟ أخبرته بأن عم على أحضرها لى ... طرق بيده
المكتب بعنف وهو يصرخ: انتا هتستعبط الراجل ميت بقاله سنه.. مات وشبع موت ! اخلص
وفهمنى مين جابلك الورقة دى أنا تعبت منك .. انسابت دموعى فى بكاء مرير بكيت كما
لم ابكى حين مات جدى انهرت فى نوبة من البكاء والضابط يصرخ وانا لا اسمع شيئاً كل
ما أكرره : مستحيل عم على عايش... حتى ذهبت فى إغماءة نادى الضابط العسكرى وأمره
بأحضار كوب ماء سريعاً وطلب أحد ليفحصنى ... كان الظلام جميلاً مريحاً لعقلى الذى
أصبح لا يحتمل كنت مستسلما الظلام لكن فوجئت بماء ينسكب على بقوة مما جعلنى افيق
بقوة وانا احاول التنفس ... كان بالغرفة عدد من الضباط وأفراد الأمن والجميع ينظر
لى ... وانا احدث بالجميع قام الضابط وربت على ظهرى واقترب من أذنى وأخبرنى أنهم
ذهبوا للعنوان بالورقة وعرفوا أن عم على توفاه الله منذ عام أى فى نفس
التوقيت تماماً الذى جاء فيه عم على وأنه كان فى الفترة السابقة لموته ملازماً
للمسجد ينظفه ويعيش فيه وقد سمح الشيخ ناصر له بذلك وأنه مات بالمسجد ولم يستدلوا
على شخصيته فتم دفنه بمقابر الصدقة وأن الشيخ ناصر وجميع الناس بالحى والمسجد
تعرفوا على صورته وأكدوا هويته وأنه من المستحيل ما أرويه لهم .... وأنطلقت فى
بكاء حار غير مصدق ويأس الضابط منى فأطلق صراحى حيث لم اعد متهماً
بشيئ خاصة وقد تنازل ابناء عم على عن تشريح الجثة للتأكد .... أكتفوا بشهادة أهل
الحى الذى شاركوا فى جنازته ..... نصحنى الضابط بمراجعة طبيب نفسى فحالتى
مثيرة للقلق والا أكرر ما أقوله مرة أخرى وإلا سأظل محبوساً .....وانا انصرف
قابلتهم مراد وطارق ومنال وقد فوجئوا بى احتضنهم بقوة وانا ابكى وهم فى استغراب
وعدم فهم لتصرفاتى اعتذروا لى ودلفوا إلى داخل القسم سريعاً ....
عدت الى بيتى حزيناً شاردا تسيطر على مشاعر متضاربة من الفقد والوحدة
والحزن والخوف واليأس ودخلت الشقة وألقيت بجسدى المتعب على الكنبة حيث كنا نجلس
أنا وهو وأخذت ادور بعينى فى كل شئ حولى ... هل أنا حقيقة واهم؟؟ وهذا الشخص هو من
عالم الاموات ؟؟ كل ما مررت به معه الصلوات فى المسجد الحدائق الطعام الذى كان
يعده لى القصص التى أكد أقرب الناس له أولاده صحتها هل هو حقيقة أم شبح ؟؟؟ مهلا
انا اسمع صوت عكازه يصعد السلم ... عدت الى أوهامك مرة أخرى ... الباب يطرق طرقات
خفيضة .... يتسارع الدم فى عروقى والأثارة جعلت الأدرنالين يتفقد ... مشاعرى وكأنى
فى إعصار عاتى خوف شوق حنين حزن وهم جنون هو موجود هو ميت هو شبح .. وفجأة انتفضت
من كل هذا فأنا اشتاق له ... فتحت الباب على مصراعيه فوجدت عم على يقف مستنداً على
عصاه يبتسم فى تشكك فجريت عليه وأحتضنته بشوق وبقوة نسيت كل ما مررت به ... أمسكت
بيده أشده للداخل وهو يبتسم بوجهه الطيب وجلسنا فى مكاننا المميز وجلس يقص على قصة
أخرى من قصصه .....قصة أولاده وهم يبحثون عنه للتأكد من موته لا أكثر حتى يستطيعوا تقسييم
التركة ... فاختفاؤه أوقعهم فى ورطة أصبحوا يملكون ولا يملكون .. لا يرثون شيئ حتى
يتأكد موته ولذلك تركهم كل هذه الفترة فقط ليتعلموا درساً لكن يبدو أن المال أعمى
أعينهم ونسوا كل شيئ .... حاولت الدفاع عنهم ... ربت على كتفى وهو يسألنى : حتى
بعدما فعلوه معك ؟؟؟
فابتسمت وانا أبرر تصرفهم فالموقف كان مربكا بقوة حتى أنا كنت فى
حيرة وارتباك .. ابتسم وهو يسألنى: والآن؟؟ ابتسمت وانا اجيب بصدق لا أعرف
أمضيت باقى حياتى أنا وعم على كما كنا نعيشها من قبل لم ألقى بالاً
لما مررت به فقط تعجبنى حياتى معه هكذا .... وأصبح يعيش معى فى شقتى حيث
باعت منال الشقة بعد هذه الأحداث مباشرة ومرت بى وهى تسلم المشترى الشقة طرقت
الباب تخبرنى بأنها باعت الشقة كان يجلس بالداخل يسمعها لكنه لم يحرك ساكناً ..
وهى تختلس النظر الى الداخل ثم مضت ولم ارها مرة أخرى .... عندما دخلت كان حزيناً
كانت عينه تخبرنى بكل شيئ كان قد أوصى ألا تباع هذه الشقة ... لكن حتى وصيته لم
تحترم ... هو ليس شبحاً هو لم يمت .... هو مات الآن فقط ... أحتضنته وقبلت
رأسه أواسيه ...
أنا وعم على ظللنا نذهب سوياً للصلاة ونتمشى سوياً على الكورنيش ...
ونجلس بالحدائق .... ونتفقد المتاجر نشترى ما يلزمنا .... كل مكان أذهب اليه يكون
هو معى ما عدا العمل التى كنت أنهيه وأعود مسرعاً كى نتناول الطعام الشهى الذى
يعده لنا كل يوم ونعيش حياتنا بكل رضى .... حاول كثيراً دفعى للأرتباط والزواج
لكنى كنت عازفاً كلياً عن هذا الأمر .... وهو بين الحين والأخر يرشح عروساً ما من
الجيران مرة ... ومن زميلات العمل مرة ... كان لا يمل من الأمر ... أما أنا فكنت
أرى نظرة الأخرين للمجنون الذى هو أنا ولم أخاول خوض تجربة أن يتحول التلميح الى
تصريح أبداً ...
نصحنى
الكثيرون بالذهاب للأطباء النفسيين بعد الحادث وكان أولهم الضابط بالقسم وزملائى
بالعمل بعدما عرفوا القصة من زميلى لم يكن أحد يصدقنى وذهبت للعديد من الأطباء
وشخصوا حالتى بالعديد من التشخيصات ... فصام ... ذهان ... بارانويا ... وأعزوا
أسباب مرضى لافتقادى لجدى الذى تولى تربيتى لكننى لست مريضاً ولست مجنوناً ولم يكن
الذى يعيش معى هو جدى .... كان شخصاً أخر كان عم على .... لو كنت متوهماً كما
يحللون لكان الأجدر والأولى أن يكون من يعيش معى هو جدى .... وعندما أصارحهم بهذا
كانوا يعطوننى العديد من الأدوية وفى كل مرة كنت أذهب للأطباء كان يصطحبنى ويجلس
بالخارج ينتظرنى حتى تنتهى الجلسة .... بل ويحرص على تناولى الأدوية فى مواعيدها
.. حتى لم أعد فى حاجة لها تماماً وأنقطعت عن تناولها تماماً رغم محاولاته ..
عم
على حقيقة وليس وهماً أو شبحاً حتى لو كان شبحاً فهو الشبح الذى أحبه
رووووووووووووووووووووووووووووووعه
ردحذفتسلم
حذفجميلة جداااااااااا
ردحذفشكرا على التعليق الجميل
ردحذف